الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

حروب مشروعَين

المصدر: "النهار"
جواد الساعدي
حروب مشروعَين
حروب مشروعَين
A+ A-

بين مشروع "دولة الخلافة" ومشروع دولة "العدل الإلهي"، أي دولة "صاحب العصر والزمان"، ستستمر الحروب بلا نهاية مرتقبة، وكما هي منذ قرونٍ مضت، تخبو حينًا، وتشتعل أحيانًا أخرى؛ تبيت دمويةً هنا وتصبح أكثر دمويةً هناك.  

ستستمر بمحرّكاتها الغيبية النفّاثة للإلغاء والتدمير ورفض الوجود المتنوع والمختلف.

ستستمر على قاعدة الخوف المتبادل، والشك المتبادل والتكفير المتبادل؛ التكفير سرّاً أو التكفير علانيةً، بعيداً من المجاملات التي تفرضها الظروف والتوازنات.

ستستمر باعتقاد حيازة حقوق الملكية في الجنة والنار، لا بل بحيازة حق الحياة وفريضة الموت.

ستستمر مدفوعةً بنزعاتٍ لا حدود لها في التوسع والسيطرة تُسابقها عصبياتٌ مستترة وعصبياتٌ معلنة غادرتها أمجادٌ تليدة وأعمت عيونها أوهامٌ عتيدة.

ستستمر، يسوقها التناحر الأبدي الذي لا يرتوي من دماء الناس، وهي تسرق أحلامهم البسيطة في عيشٍ آمنٍ مستقرّ ينمو فيه أبناؤهم دون ترصّدٍ من بطش الإرهاب القائم على التطرف، ودون خوفٍ من سكاكينه التي تحز الرقاب وتشق البطون وتمضغ الأكباد.

سيبقى الاعتقاد بـ"الحقوق التاريخية" المترافق حكمًا مع نبش الأحقاد والضغائن وكل ما تتطلبه التعبئة ضد الخصم، مصدراً لفنون القتل ومنهلاً لتوظيف التراث، بكل ما فيه من مفتعل وغير مفتعل، في سبيل المزيد من الجولات المدمرة التي لا تفضي إلا إلى مزيدٍ من الخراب وفقد الأحبة قبل ضياع الثروات وتعطيل عجلة التقدم في كل مناحي الحياة واتساع حفرة التخلف وازدياد مسافة التراجع الحضاري عن الأمم النامية والمتقدمة، مما يعني المزيد من التبعية السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية والمزيد من الخضوع لشراهة السوق وقوة مصادر الانتاج التي تسعى دائمًا إلى التحكم بأسواقها الاستهلاكية بأي ثمن، حتى لو كان ذلك من خلال تأجيج الحروب الأهلية التي تبقي المجتمعات في حالٍ من الشلل؛ وليس أسهل من ذلك في مجتمعاتٍ كمجتمعاتنا التي تعاني من هذا التناحر التاريخي الذي تبدو نهايته بلا أفقٍ.

أما التناقضات الفقهية والعقائدية والسياسية التي يحتويها كل مشروعٍ وتصل في كثير من الأحيان حدّ الاحتراب، فهي ماءٌ إضافي في طاحونة حروبنا الطائفية والمذهبية، لا يقل شأنًا عن التناقض العام بين المشروعين.

كانت هذه التناقضات، ولا تزال، مبعثًا لمؤامرات وصراعات من أجل السلطة السياسية والدينية أو التحكم برأسها، ولطالما فجّرت حروبًا بينية وقودها بسطاء المؤمنين الذين يتقاتلون على وعدٍ بالجنة من الطرفين المتناقضين.

في عام 945 للميلاد، استولى البويهيون ومَن معهم من الديلم القادمين من شمال الهضبة الإيرانية على بغداد وقبضوا على الخليفة العباسي المستكفي وفقأوا عينيه. ولما كان في البويهيين "تشيّعٌ شديد" وكانوا يرون أن العلويين أحقّ في الخلافة من بني العباس. فقد عزَم سلطانهم مُعز الدولة البويهي أن يحوّل الخلافة من بني العباس إلى العلويين، واستشار أصحابه في ذلك فوافقوه، إلاّ واحدٌ منهم قال: لا أرى ذلك. قال: ولمَ؟ قال: "لإنَّ العباسي خليفة ترى أنت وأصحابك أنه غير شرعي، فمتى ما أمَرتَ بقتْله قتَله أصحابُك، أما العلوي، فأنت وأصحابك تعتقدون بصحة ولايته فمتى ما أمرَ أصحابَك بقتلك قتلوك"، فترك السلطان البويهي ما كان قد عزَم عليه.

لا أحد سيزيل أحداً أو يمحوه من الوجود على مستوى الجماعات والطوائف التاريخية والمجتمعات الحضارية.

لا الشيعة تزيل السنّة، ولا السنّة تزيل الشيعة. لا الفرس يزيلون العرب ولا العرب يزيلون الفرس، وكذلك الأتراك.

في كل مرّة يذهبُ بعض الأشخاص، وربما تتحرك بعض الخرائط وتتغير بعض السلطات، وفي كل مرة سيتعب المتحاربون، وبعد أن تحقق القوى الدولية مآربها أو تضيق بهم ذرعًا، سيذهبون رغماً عنهم إلى التسويات؛ ويصبح القتلة بلا عمل، والناعقون في أبواق التحريض والحقد والتدمير، بلا وظيفة، لكن الأعداء المتصالحين من الجانبين يوكلون لهؤلاء مهمة لحس الدماء التي سالت، كي ينظّفوا الشوارع لإقامة الاحتفالات بنصرٍ مزعوم؛ بنصرٍ تحتاج إليه السلطات كي تستمر في قمع الشعوب واستغلال الموارد والناس.

لكن حذارِ:

إنَّ الضغينةَ تلقاها وإن قَدُمت/ كالعُرِّ يكمنُ حيناً ثمّ ينتشرُ


• معظم التكفيريين، سنّةً أكانوا أم شيعة، ينأَون بأنفسهم عن التكفير، ولكن عندما يندفع أحدهم في الحديث ويشرح ويُؤوِّل، تجد أن طائفته وحدها ستدخل الجنة، وأنه من "الفرقة الناجية".

• إذا انفصلت الجماعات المتشابهة وعزلت نفسها عن الجماعات الأخرى، فإن أعضاءها سيخسرون حريتهم، منفردين في الداخل، وسيخسرونها مجتمعين بالخوف الدائم من الجماعة المختلفة.

• "التحالف" الأكثر تنافراً وتقاربًا، والأوسع انتشاراً في المنطقة والأكثر تنظيمًا وقدرةً، هو التحالف الإيراني مع الأخوان المسلمين. لذلك نرى الدم يسيل في بلادنا، بينما يسيل الذهب بين إيران وتركيا.

• لا يمكن محاورة العقائديين لأنهم لا يستطيعون استيعاب ما يرونه خارج "مهمة الدفاع عن العقيدة".



حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم