الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

عن "كفاح".. بائع الاسطوانات

المصدر: النهار
آية يونس
A+ A-

"انا كفاح، من حلب"، بصوت خجول وبسرعة أجابني ذلك البائع الجوّال، عندما سألته عن اسمه ومن أين يأتي حين كان يلحّ عليّ لشراء اسطوانة، وانا خارجة من احد المحال في سوق جبيل. "مين ما بدّك، الأغنية لي بتحبيها، الفنان لي بتمسعيلو كلو موجود، اغاني جديدة وكلو آخر البومات"، يردد الولد الاسمر الذي يحمل في عينيه شقاءً ممزوجاً بالبراءة والطيبة دفعتني الى الاسترسال في الحديث معه. ليست عادتي ان افعل. غالباً ما احاول غضّ الطرف عن مآسي الشارع، فأهرب متى ما صادفت ولداً ينتهك الشارع حقه في الحياة، خصوصاً وان الظاهرة في زمن اللجوء السوري باتت كبيرة، والجميع يشعر بالعجز امامها.
سألت فتى الاسطوانات اين يسكن ولماذا ليس في المدرسة في مثل هذا الوقت من اليوم كما باقي الأولاد. "انا ساكن بحلبا بعكّار، بتعرفيا؟ بعيدة من هون، شو بدّك سي.دي". اختصر الإجابة وعاد ينظر الى اسطواناته وهو يحاول ان يشعرني انه يحدثني فقط ليبيع وليس لتضييع الوقت. وعندما لم يلقَ ردّاً منّي تأهب للذهاب، فانتبهت عندها انني لم أشتر منه وكنتُ فعلاً مهتمّة بشراء بعض الاسطوانات الجديدة. اخترتُ ثلاث اسطوانات في شكل متمهل وبطيء علّني اعرف اكثر عن كفاح. سألته: "مين الي بينسخ هالأغاني الحلوة، انت يا شاطر"!
بانت ابتسامة بريئة على وجهه الأسمر وأجابني: "لا، هيدا الريّس ابو الأوف أشطر معلّم سي.دي بتعرفي وين محلّو، بطرابلس تحت حدّ اسواق الخضر". فقلت له انني اسمع عنه دائما لأنه مشهور (وانا لا اعرف عنه شيئا)، "بيشتغل معو كتير ولاد من عمرك بعرفن". فتفاجأ الولد وقال: "بتعرفي محمود وعباس ورامي وكريم وجناح؟ هني بجونية وبطرابلس وببيروت".
طال حديثي معه، وانا احاول ان اعرف المزيد من غير المتوقع، لكن لا شيء في قصتّه جعلني اودّعه وانا مطمئنّة انه بخير، فهو فقد والده في الحرب السورية وهرب مع خاله وعمّه واخوته الثلاث الى لبنان، سكنوا في حلبا، وهناك بدأ العمل واشقائه جميعهم عند "ابو الأوف" الذي يمتلك محلاً لنسخ الأسطوانات، اما المال الذي يتقاضاه البائع الجوال مقابل يوم طويل من العمل، فهو خمسة الاف ليرة.
عمالة اولاد، فقر، تشرّد... هو مصير كثيرين ممن يهربون من الموت وحجيم الحرب ويلجأون الى بلد آخر من دون ان يمتلكوا الحدّ الأدنى من مقومات العيش ليتمكنوا من البدء بحياة جديدة في بلد الملجأ، فيضطر الأولاد الى العمل والتجول بين السيارات تحت اشعة الشمس والمطر لتحصيل حفنة من المال لا تكفي لشراء القليل الذي يشبع البطون الصغيرة. ناهيك عن ما يتعرض الاولاد له من مخاطر اثناء تنقلاتهم في الشوارع ولاسيّما الفتيات، بالاضافة الى سوء التغذية و الارهاق الجسدي اللذين يفتكان بأجسادهم، الأمر الذي قد يؤدّي الى أمراض ونقص في المناعة لديهم. ويترافق ذلك مع التوبيخ والتعنيف المعنوي والجسدي من اربابهم الذين يستغلون حاجة الولد الى العمل في سبيل إعانة العائلة، فيدفعون أجوراً متدنية مقابل ساعات "شقاء" طويلة (أكثر من 8 ساعات يوميّاً)، ويستغلونهم خارج إطار العمل بحيث يصبح الولد خادماً اكثر من عامل.
"كفاح"، إسم على مسمّى لكنّه ليس الولد الوحيد من اللاجئين السوريين الذين يخسرون بالإضافة الى بلدهم الأم، طفولتهم وحقوقهم كأولاد قاصرين، لاسيما الحق في التعليم، فهناك الالوف من أمثال "كفاح" يتوزعون يوميّاً في شوارع لبنان، منهم من يبيع العلكة او السكاكر ومنهم الاسطوانات او الورود، فتبنى اجيال من دون تعليم وتتكاثر الأمية والجهل لتترسّخ في شخصياتهم خصائل وترسبات طفولة معذبة لن تأتي الا بردّة فعل سلبية عليهم وعلى المجتمع الذي يعيشون فيه.
[email protected]
Twitter: @ayayounes01

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم