السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

رسالة افتراضية من منى المذبوح إلى أمٍّ مصرية: أحبكِ وأحبُّ أرضكِ

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
رسالة افتراضية من منى المذبوح إلى أمٍّ مصرية: أحبكِ وأحبُّ أرضكِ
رسالة افتراضية من منى المذبوح إلى أمٍّ مصرية: أحبكِ وأحبُّ أرضكِ
A+ A-

أمي المصرية! أكتبُ إليكِ من غياهب زنزانةٍ بسجن النساء بالقاهرة، قابعةً فيها منذ أسابيعَ ثقيلة كالنَّدم. رسالتي هذه أبدأها باعتذارٍ صادق عن كلماتٍ نابية، بَدَرت مني في حالٍ من الغضب. اعتَبريها من اللغو الذي لا يؤاخذُ اللهُ به الناس، وإن أفْلح عنه المُعرضون. اعتَبريها من هفوات اللِسان، وقد خانَه "الفايسبوك"، أو سَقطَة إنسانٍ، وقد قسا عليه جَبروت "الشبكة"، في لحظة استَرخى فيها الضمير وتعطَّل العقل. ما صَدَر مني صَيحَة مكلومٍ واستغاثة مَصدوم. كان عُنف عباراتي بقدر شدة خَيبتي حين أبصرت البونَ البائنَ بين مِصر الجبابرة التي روَّضت جلمودَ الصخر، فجعلت منه أهراماتٍ، وبين ثُلة قليلةٍ، من أصحاب الهوى الضعيف، تَحرَّشوا بكائن أضعفَ منهم. أحسستُ بالخِيانة، ومثل أنثى جريحةٍ، صرختُ.   

أمي المصرية! كانَت قسوة كلامي بمقدار شدة ألمي وأنا أتحسس عشقي لمصر يَتَهاوى مع كل حركة سائبة. كان حَنقًا طفوليًا. شاهدت تساقطَ الهالات التي نسجَها خيالي: أين ذاكَ الإلهام الذي فاضَ على ضفاف النِيل، وظل يروي سؤالَ الأدباء ومَلاحم الأبطال وأهازيج المزارعين، يقهرون عاتيات الزمن.

أمي المصرية! آلمني أن لا تنبضَ شوارعُ القاهرة بسَوْرة الحياة، بضجيجها، ذلك الذي ألهم كِبارَ الكتاب والمثقفين. كيف صار تفاهاتٍ وفراغا مدويا؟ ألم تُهدِ خُصومات الأزقة نجيبَ محفوظ أجملَ ما كَتَبه من روايات؟ ألمْ تُلهم الشعراويَّ تأويلاتِه الروحية، فراح يُخاطب "بخواطره" شَباب "الحسين"، ويَهديهم سُبلَ الرشاد؟ ومن جَلبة أحيائِها وضوضاء شوارعها، ألم تبزغ آهات أم كلثوم صدًى رائعًا، يفيض عليها "أمل حياة" و"ذكرياتٍ"؟ ألم تَتخلق من عَرَق الشَّعب، وهم "فلاحون طيبون"، تجاويف "الأرض" للشرقاوي، هويةَ بَلدٍ عميقة؟ ومن شُققها المكتظة ألم تَهِم الأسئلة على وجوهها؟ ألم تُعزَف في أراضيها وتِرَعها سنفونية الشهامة، وإن ندَّ، هنا وهناك، نشاز ذَوي الصغار؟ نعم. كانت ضراوة كلماتي بمقدار وَجعي حينَ لم أعانق، في قاهِرة الجمال، آفاقَ الجَمال، مَنَعَني منه الحنقُ وقلة الصبر. القاهرة، شامةٌ في جبين افريقيا، لا يعانقها إلا ذَوو المجالَدَة، وقد خانَتني. وليتَني صبرتُ حتى أقرأَ.

أمي المصرية! لن أبَرِّرَ خطئي فهو فظيعٌ. ولئن ساءني بطءُ نادلِ أو تكاسلُ سائق، فالعيب في"أم الدنيا" التي عوَّدَتْني الإسراع في صنع المعجزات. ألم تكن هي التي بادرت بإنشاء أقدم مَدنية؟ أليست هي التي علَّمت البشرية كيف تُجاري النهر ولا تغرق فيه؟ الخطأُ فيما حَملتُه عنها من مواقف "الكَرم في صحراء العدم". وما فتئ أهلكِ يغنون ألحانَ خلودٍ وأنغامَ أصالةٍ: صاغها عَميد الأدب في "أيامه"، ونقلها قلمُ العقاد في "عبقرياته"، وارتفع بها الحكيم في "مَسرحه الذهني"، ولا تزال قوافل المبدعين، ومنهم علاء حين يجاور "عِمارَته"، فيصوغ من طوابقها، في شارع القاهرة، ذوبَ أدَبٍ وسَرحَةَ خيالٍ.

أمي المصرية! لم أستنفذ بعدُ ما في بلدك الخصيب من غَناء الثقافة وأرَجِ الفنون. خلال زياراتي، كان لي في كل لحظة موعدٌ مع الطبيعة وأسرارها، مع الكلمة وأغوارها: شوارعك شعرٌ، وتاريخُكِ إيقاعٌ، وجلبة الناس في دروبك بَيانٌ. كلما وطِئت قدماي ترابكِ الغالي، اكتشف قَصَصًا أصيلاً من كفاح البشرية، حين كانت على نِيلكِ، من قَبْل موسى، تساءلُ الغيبَ وتقارع الزمنَ وامتداده.

أمي المصرية! تذكري أنَّ لي أمًّا لبنانيةً تحترق ألمًا، لأني فرَّطتُ في سوانِح العِلم وكنوز العرفان. تَوَدُّني أن أطالعَ كتبَ أدباء البلد، وأقلام الصحافة، من هيكلَ إلى "نيوتن". كم تشتهي أن أستذكرَ ما صاغه أسلافي، الذين وفَدوا من بلاد الشام، يشيِّدون، مع أقرانهم المصريين، صرحَ نَهضة وهَرَمَ حضارة. تنتظر مني أن أقرأ كيف رسمت ريشة "المشارقة" لوحات الإخاء، يَنصهر فيها الكَدح والجَسد والبيان. زيدان ومطران ومَيْ زيادة... من لبنان جاؤوا يَحملون لوعة الضاد. لا بد أن أقرأها. بعدَها لن تكون هفوات لساني الماضية سوى لغوٍ عابر، زبدٍ فاترٍ في محيط الحياة. عساكِ تَصفحي عني، فأنا أحبكِ، وأحبُّ أرضكِ. 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم