الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

فاشل وسعيد

جورج موسى
جورج موسى
A+ A-

على طاولة صغيرة، جلست وحيدة. النادل يراقبها من بعيد، عرف مباشرة أن تلك المرأة في إنتظار أحدهم. وسط طلبات الزبائن، يطيب إليه من وقت إلى آخر، أن ينسج سيناريوهات لروّاد المقهى حيث يعمل. دقائق وقطع الشكّ باليقين. مراهقة في الـ14 أو الـ15، ومعها رجل في أواخر الثلاثينات، إنضمّا إلى تلك السيدة التي لفتت انتباهه منذ وصولها، ولا يعلم لمَاذا.
"هكذا إذاً، على الأرجح هي الأم التي سبقت الزوج والإبنة إلى المقهى، فيما هما راحا يكملان الجولة في السوق".
تبدو تلك العائلة مثالية. ليس صعباً أن تستنج ذلك من وجوه افرادها. حياة باهتة على الأرجح، وعناصرها لا تشجِّع ليبتكر قصصاً خيالية معقّدة عن الشخصيات الثلاث. إقترب. كان عليه أن ينظف الطاولة المجاورة. حينها، سمع الإبنة تخبر الأم – وكانت قد نادتها "ماما" – عن النشاطات التي قامت بها مع أبيها ليلة أمس. "إذا قضت الليلة مع أبيها، فأين كانت الأم؟". إقترب منهم أكثر، ليخبرهم عن لائحة الطعام والمشروبات المحدودة في المقهى. فنجانا قهوة وعصير ليمون بارد. هذا كل شيء. أوصل الطلب إلى المطبخ، وهرول سريعاً إلى المدخل القريب من الطاولة. راح يسترق السمع، شاكراً الحظ الذي أسعفه، إذ لم يكن في المكان سوى طاولتين فضلاً عن طاولة "أبطال" قصته الجديدة.
كانت الإبنة تكمل بحماسة حديثها عن المطعم البحري الذي قصداه بالأمس، وعن اختبار تسلّق الجبال في الصباح الباكر اليوم، ومتعة مشاهدة الشمس وهي تشرق. ضحك الثلاثة كثيراً حين علّقت الإبنة على شكل وجه والدها ومزاجه المتعكِّر، حين استفاق في الخامسة فجراً، وخصوصاً أنه لم يكن قد نام إلاّ لساعات قليلة. مزاجه المتعكِّر في الصباح... تلك العبارة جعلت الأم تسرح بعيداً، فيما الأب والإبنة يتابعان الحديث ضاحكين.
تعلم جيداً كيف يكون مزاجه حين يستفيق. ذلك الأمر جعلها تعاني معه لسنوات. تذكَّرت كيف كانت تحلم في فترة الخطوبة، بتلك اللحظة التي ستستفيق فيها كل يوم لتجده بالقرب منها. وجهه مقابل وجهها. أنفاسه تدغدغ أنفاسها. لكن الحلم شيء والواقع شيء آخر. تفاصيل كثيرة جعلت حياتهما جحيماً. تفاصيل كثيرة قتلت الحب: طريقة استيقاظه وطريقة نومها، ميوله واهتماماتها، نوعية أصدقائه ونشاطات أصدقائها، حبّه لكرة القدم وكرهها للرياضة على أنواعها، حتى الأمور العادية حين يتعرّق أو يشخر... كل تلك الأمور التي يعتقد بعضهم أنها غير أساسية، جعلت حياتهما تحت سقف واحد مستحيلة... فقررا الطلاق.
قطع النادل المزعج حبل تفكيرها. عادت تبتسم وتخبر ابنتها عن القهوة التي كانت تحضرها له، وعبثاً جعلته يحب مذاقها.
وهل اقتصر الأمر على القهوة فحسب؟ قالها الأب سرّاً هذه المرة، وهو يتذكّر معاركهما الدائمة وصولاً إلى العراك الأخير. يومها، قررا الإنفصال وهما على اقتناع بأن التنازلات قد تنعش الحب لكن كثرتها قد تفتك به وبالحبيبين. وهكذا عادا عازبين، صديقين... مع فارق واحد: ابنتهما!
"لم لا تعودا؟". السؤال نفسه تعيده هذه الأخيرة في نهاية كل لقاء أسبوعي يجمع الثلاثة، قبل أن تذهب هي مع والدتها وتضرب موعداً جديداً مع والدها نهاية الأسبوع المقبل. الجواب نفسه يأتيها منهما: "علاقتنا أحلى وأقوى حين نكون في منزلين منفصلين". وهم يغادرون المقهى. كان النادل يقترب من طاولة جديدة، وهو يكتب في رأسه خاتمة قصة اليوم: "ألف طلاق ناجح... ولا زواج فاشل، وتعيس"!


[email protected]
Twitter: @moussa_georges

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم