الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

حارس المرمى أمام ضربات الجزاء

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
حارس المرمى أمام ضربات الجزاء
حارس المرمى أمام ضربات الجزاء
A+ A-

يوم أمس، كان يوم ضربات الجزاء بامتياز، في مونديال كرة القدم. 

من حيث المبدأ، أنحاز شخصياً إلى اللعبة، أي إلى "الماتش" بذاته، بمنهجيته، بفنونه، بأساليبه، بصراعاته، بمراوغاته، بحواراته، وبكل تفاصيله ووقائعه، باعتباره فعلاً متكاملاً، يتولاّه فريقٌ من 11 لاعباً في هذه الجهة، وفريقٌ من 11 لاعباً في الجهة الأخرى.

أما مشهد ضربة الجزاء، فهو أقرب ما يكون عندي، إلى مشهد الحكم بالإعدام. مع فارقٍ نوعي، بسيط، على رغم أهميته، يتمثل في أن حارس المرمى، الأعزل إلاّ من يديه وجسمه، يملك "حرية" التحرّك، لصدّ "الرصاصة" – الكرة، في حين أن اللاعب المسدِّد يملك الخيارات كلّها، والاحتمالات كلّها؛ الكرة أولاً وأخيراً، وما تنطوي عليه عملية المواجهة والتسديد (الفاعل والمفعول به) من رهبة مادية ومعنوية، وسلطة وقوّة ومراوغة وحنكة. وهلمّ.

هذا لا يعني أني أرفض هذا المشهد في اللعبة، أو أتفاداه، أو أتمنى عدم حدوثه. لكني أضع نفسي في موضع الرجلَين، الحارس والمسدِّد، بما يترافق مع كلّ موضعٍ من مشاعر وأحاسيس وانفعالات وأفكار وأحلام وخيالات واحتمالات وافتراضات لا نهاية لها.

إنها لحظةٌ استثنائية في زمن اللعبة، قد تكون ذات خصوصية تراجيدية هنا، وقد تكون ذات خصوصية فردوسية هناك. وقد تحمل الخصوصيتين معاً، هنا وهناك، وفي آنٍ واحد.

يمكنني أن أتصوّر بعضاً من تلك المشاعر الهائلة الجيّاشة المتضاربة التي تعصف بكيانِ كلٍّ من حارس المرمى واللاعب الذي يسدّد الضربة.

قد يكون في إمكان المُشاهد أن يتماهى مرّةً هنا، ومرّةً هناك، وأن يحلّ حيناً في كيان الحارس، وحيناً في كيان خصمه اللدود. وقد يكون في مقدوره أن يشخصن هذا المزيج الهائل من التحدّي والرهبة والخوف والمفاجأة والدهشة واللذة والنشوة والقوة والضعف، فيتكهرب بها، وتتكهرب به، فيصير هو الحارس أو المسدِّد، وقد يصيرهما معاً وفي الآن نفسه.

لستُ أدري.

المُشاهد متواطئ أيضاً في اللعبة - "الجريمة". فقد لا يكون على الحياد في غالب الأحيان. بل هو منحازٌ في الغالب الأعمّ، بحكم الانتماء إلى منطق اللعبة، أو بحكم القبول بها.

نادراً جداً، ما يشعر المُشاهد بأنه على الحياد، وبأنه يشارك فقط من أجل اللذّة العارية، لذّة اللاعب في التسديد والإصابة والفوز، ولذّة الحارس في التلقّي والتفادي ومنع الآخر من إلحاق الهزيمة به. أو العكس. أو بين بين. أو مرةً هيك، ومرةً هيك.

يمكنني، والحال هذه، أن أكون منحازاً وحيادياً. لستُ أدري كيف. تختلط المشاعر إلى حدّ الشعور بالانفصام.

هكذا يمكنني أشعر بالرأفة. كما يمكنني أن أشعر بالشفقة. كما يمكنني أن أشعر بالقوة. كما يمكنني أن أشعر بالهشاشة. كما يمكنني أن أشعر بالتشفّي. كما يمكنني أن أشعر بالسادية، أو بالمازوشية، وفق الحال التي أنوجد فيها، مسدّداً أو متلقياً، منحازاً أو حيادياً.

كلّ ما أعرفه، في هذا الشأن، أني، كما في السينما والرواية، في لحظات الذروة التصعيدية والتشويقية، أنخطف انخطافاً كلياً، عما يحيط بي، فأصير الحارس أو المسدّد. وقد أصير الإثنين معاً في لحظةٍ مفارقة، لا أعرف كيف أفسّرها، وبماذا.

لا أحبّ ان أتفلسف على القارئ. لن أقول له مثلاً، إني قرأت كتاب "خوف حارس المرمى لحظة ضربة الجزاء" لبيتر هاندكه، وإني أريد أن أُسقِط مضامين صفحاته وتخييلاته وافتراضاته وأحواله على ما يجري في ملاعب موسكو والمدن الروسية الأخرى، في زمن المونديال هذا، وخصوصاً عندما يستحيل على فريق أن يحرز فوزاً على فريقٍ آخر، في المدة الأصلية والمدة الإضافية، فيلجأ الحكم إلى ضربات الجزاء.

تماماً، كما حصل يوم أمس.

كلّ ما أعرفه، أني، شبيه هؤلاء الصغار الذين يحضرون المباريات، وأخاف ما يخافونه.

فكيف لا أكون كذلك، في خوف حارس المرمى أمام لحظة ضربة الجزاء؟!

[email protected]



حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم