الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

جواز سفر أجنبي

المصدر: "النهار"
علي حبش
جواز سفر أجنبي
جواز سفر أجنبي
A+ A-

(إلى سعدي يوسف المعلم الاول) 

هذي أقدامي

تجتاز عامها الخمسين بعيدة عن بغداد

عن باصها الاحمر

عن هوائها الحار

الذي تخلل أنفاسي أربعين عاماً،

بين بغداد وأقدامي

يجلس المحيط

يترقب آخر القتلى،

أتذكر جيداً ذلك العنكبوت الذي عبر المحيطات

وهو يحمل بين أكتافه كتاب الموت، متعثراً بالزقاق

أتذكر ذلك العنكبوت الذي وصل شارع الرشيد

مشتبكاً بأنفاسي،

في ذلك الشتاء الأغبر

تقيأ العالم قيحه وسط المدينة

وتراجع الرجال

أشباه الرجال يصلون صوب الكرخ أيها المغفل،

يقولون

إن مجاري العراق

فتحت عام 2003

وخرجت منها حشرات وأفاعٍ،

ابن عاهرة 

هذا القدر

الذي أسلم أوراقه إلى روث الجاموس.

أفعى لها ذيل

طويل

 تذكّرني بكسرى

ربما كان كسرى مربّياً للأفاعي

حقد ينتعش

بالضحايا

يرسم خريطة

البلاد الجديدة،

الشعر آلة خطرة تخدش التاريخ

لماذا تحطم زجاج المنزل

وصار القلب ساحة للنزال

وتصفية الحساب؟

إنهم يقتربون من احلامي

يقتربون من دموع طيبة (طيبة، ابنة الشاعر ولدت في بغداد عام 1996)

كيف سأواجه مدرّعاتهم

وأنا لا أملك من الحرب

غير زجاج تحطّم

وبعض النقود المعدنية؟

جيوشٌ من الحمقى

تتسلّق المباني

وآخرون يتكلمون بلغات عجيبة

هكذا اقتحمتِ الطائرات ألبوم الصور

وأحرقتْ ما تبقى

من المكتبة

وانزلق العمر في المرحاض

انزلق الأصدقاء في النقود

صحافيون، مدّاحون، مترجمون أدلاء

الكل يحاول عضّ البلاد

بطرق مختلفة،

بأساطير كاذبة

يحاولون ابتكار المجد

كلهم صفقوا للإنكليز

أتذكرهم

واحداً واحداً

يتعكر المزاج العام

تماثيل تتكاثر في الشوارع

نقاط تفتيش

تحرث البلاد بأنياب حديدية،

رائحة الموت تقتحم المقاهي

وعلى مشارف الليل

تزدهر روائح كريهة،

الكل يتآمرون بين النهرين

الكل يشتركون بإغراق السفينة.

***

ألتجئ إلى السحرة

العرّافة الخرساء التي كانت تسكن الكاظمية

اغتصبها جندي

وماتت في غرفة الانعاش

يتدهور المستقبل على لافتات سوداء

مكبّرات الصوت تحملها حيوانات

يحملها أطفال

أناشيد لها نبرة الانتقام

سيارة إسعاف تحمل الأسلحة،

وأخيراً

صديق عزيز يسألني عن أصولي

عن هويتي الشخصية،

وفي نهاية السهرة

قبل الكأس الاخيرة

رصاصة على عتبة الدار.

ضابط الجوازات كتب لي حياة جديدة

أهدى إليَّ جواز سفر بلا ألقاب

فخرجتُ من الموت بضحكة

أجرجر أطفالي

نحو بلاد أخرى

نحو قبر

لا يجيد العربية،

اللغة الانكليزية

تمنعني من الوصول الى الحقيقة

كيف أترجم حياتي لهم؟

شرح يطول بلا فائدة

فأهرب إلى الاشارات

الاشارات تقرّب فكرتي من المعنى

شرحٌ يطول بلا فائدة

فأهرب الى البار

البار سجنٌ أيضا بلا قضبان،

الجنة التي حلمتُ بها

امتلأت بالقتلى

ولم يعد هناك

في نهاية

القصيدة

غير

كلام بذيء

وممحاة

وأعقاب سكائر

ويوم جديد بلا حبيبة

كلٌّ يغنّي على ليلاه

والعالم يتقدم بنا

يجرجرنا نحو مشفى شاهق

يصطدم بالسماء.

بالمصادفة وصلت اقدامي أرض كولمبس

وهذي ناطحات سحاب قرب قميصي،

شيكاغو!

كنا نراها في الأفلام

كنا نسمع بها

صارت حقيقة

ومات حنيني إلى السفر.

كلاب أنيقة تحمل وثائق ثبوتية

تجلس بجانبي في الباص،

زنوج وإسبان وهنود،

آخرون من آسيا

أقوام أخرى بديانات مختلفة

يؤدون التحية لي

من هؤلاء؟

آخرون

يبتسمون في وجهي في صباح

لا أعرفهم

كأنني أعرفهم منذ قرون،

في محطة الوقود

باقات من الورد تستقبل الزبائن

امرأة جميلة تقود الباص

وأخرى تمنحني قبلة

لمناسبة العام الجديد

الحبّ يتربع وسط النهار،

أدوس عشباً أخضر

كل يوم

على أرض لا يعرفها أبنائي

أرض جميلة بلا مكياج

بلا أسئلة

وبلا نهرين أيضاً

ماذ سأفعل بدجلة الآن؟

لنغيّر من القصيدة قليلاً

ونقول بغداد

الرصاص يتناسل أيضاً في بغداد

وفي الصدور ينمو

وعلى صفحات الجرائد يستريح

أين بائعو الأسلحة

سؤال يتكرر في السوق

كيف تَهَندس الموت

وصار حبراً على الورق؟

كيف ازدهرتْ صناعة التوابيت في بلادي؟

***

أين هو العالم؟

أريد أن أمرّ بقربه لحظة

أو أتلمس ذراعيه

أحيانا أسمع أنينه ولا أراه

ومن جديد

يتقدم بنا

يتقيأ امعاءه في مدن نعرفها

كأنه حيوان أخرس

كأنه العراق

بثياب جديدة.

العالم

أتمنى لو أمسك به

بيديه

وأقوده نحو المدرسة

الى كتاب القراءة أو الجغرافيا

فيختفي بين أصابعي

أتمنى أن أرى بائعي الرصاص

ولو في الحلم

وأُلقي بهم في المحرقة.

أقدامي

تجتاز فكرة الموت بالنبيذ

كان النبيد يجمعنا

في "أبو نواس"

صار النبيذ

يدفعني إلى البكاء

أسند ظهري

على جدار اسمه جواز السفر

فيحرق المذيع دمشق بالبيانات.

***


رصاصة تتبعني في السرير

في الحلم

كانت تنام معي

كأنها تمساح

هل هذه زوجتي

أم رصاصة تنتفخ في المطبخ

صراخها يزعج الجار

يجرح الشراشف

صراخها يطعن

الوسادة

منذ سنين وأنا أبحث عن عقد الزواج

عن تلك الورقة

التي جرفتني الى هذا القفص

الى قضبان ترتفع نحو السماء.

***

ليمونة في جوارها سكّين

في جوارها

منفضة

وأعقاب سكائر

وأمنيات تتبخر

هذا هو ليلي الجديد.

لا.

هذا أملي

يتلاشى بعيداً

عن شارع السعدون

وينصهر مع العشب الأخضر.


في ليلة العرس الأولى

كانت الحياة تجلس بقربي

وكنت ألمّع غرفة النوم بالأمل

وبعد عشرين عاماً

رفعتني السماء

الى قارة أخرى

فضاع الأصدقاء

ولم يبق في الحلم

غير

بسطال قديم

ورقم الباص المؤدي الى ساحة الميدان

"راغبة خاتون 6 ساحة الميدان"

واختفت الحياة في زجاجة

"لقد كبرنا وصار لنا أصدقاء في السجون" (للشاعر السوري لقمان ديركي)

بدرهمٍ كان الباص

يحمل أحلامي

ويجتاز جسر الشهداء

ملتصقاً بالمارة والكراجات

بدرهمٍ

كانت حياتي تنقلب

وأعبر دجلة صوب الكرخ

ملفوفاً بالأجنحة

لم تكن العواصم أحلامي

ولا المطارات

كنت أغفو في درس الجغرافيا

أفشل في الإجابة عن أسئلة المدرّس

ثم استدارت الحرب

بدأت تنتفخ وتكبر.

الحرب تتخطى أمام المنزل

صاروخ يصافح المقهى

يبصق على الجميع

وآخر يتجمد في أسفل القلب

ثم ينقطع البث.

أتجول في دمشق

وفي جيبي وثيقة اللجوء

أبحث عن المطارات في كتب التاريخ

وفي غرفة مكيّفة وسط الشام

أصطدم بأحد المترجمين

وهو يبارك العائلة بحياة أخرى

أرتجف

وفي يدي بعض الوثائق.

مرات عديدة

حاولتُ أن أبيع ذكرياتي في مقهى الروضة

ولم أنجح

وأخيراً وفي نهاية النفق

نجلس في أحشاء طائرة تتجه

نحو الغرب

نحو مصانع الرصاص!

"كل ما تعلمناه زائف"

قالها رامبو

عام 1873

الطائرة تقود مصيري

الى الهاوية

مثما الشعر.

طائرات تحمل الاحلام

وأخرى

ترتفع باللاجئين

بحياة

ستهمل

في قواميس اللغة

طائرات أخرى بلا طيار،

ولا يزال النبيذ صديقي الوحيد

لا يزال الوطن يكنس أبناءه

خارج الحدود

اشفِقْ عليّ أيها

الوطن

اقتربْ قليلاً

من أبنائي

من وثائقي الرسمية

أريد أن أتهجاك جسورك بلا دمعة.

لكنني أبتدئ هكذا من يسار الجملة

Ali

مخففة باهتة بلا لون

هكذا يبتدئ يومي من اليسار.

لا نبرة تذكّرني باسمي

والرغبات جيش يلملم قتلاه

ومن جديد

الاسئلة نفسها تتكرر

يسألونني عن الحرب

وكيف عبرتُ المحيط

الأسئلة نفسها تتكرر

تتكرر

لا أجيد لكنتهم متعثراً بحرف الراء

أنتَ من الشرق الاوسط اذاً

هذه هي خاتمة المعنى

هذا هو الدليل

هذا حصادي

 وبيان ولادتي.


الشرق الأوسط

يتلوى على الصحف وفي المكتبات

يحترق في عيون المارة،

الأحاديث تقودني دائماً

الى المشكلة نفسها

الى الأصول الأولى

الى بغداد

ويستدير الجميع في آخر الجلسة

الى جهة أخرى.

أحاول أن اتسلّل

الى شارع آخر

أو الى بار

فأصطدم بإشارات مرورية

وألغاز

كتبتْ على زجاج المدينة

كيف لي أن أبرهن للجميع

أنني بلا أدوات حارقة

بلا

أسلحة

وهذه ملابسي

جفّ عليها

النهار.

هواءٌ ممزوج بعطور النساء يتخلل

حياتي

أشم خطاها وهي تدخل الصالة

بياضها

يحجب عن أصابعي الشمس

وزرقة العين

 قصة لا تنتهي

كأنها حبي الأول

كأنها برتقالة في حقل مهجور

وبسبب الكحول المفرط

نسيتُ ما دار بيننا ليلة أمس

نسيتُ عطرها في ثيابي.

هذا الألم حيوانٌ ضخم

يجلس معي إلى الطاولة

أين ترعرع

وكيف دخل البار؟

الألم

يلتصق على الورق الأبيض

وفي الحبر ينمو

الألم

بحثتُ عنه كثيراً

في الباص كنت أتعثر به

ويختفي،

صار الألم شاشات كبيرة ملونة

تقتحم المكان.

في كل لحظة

مشهدٌ مروع

ورائحة للضياع

هل هذا حطام

ام الشرق تتصاعد منه اعمدة الدخان؟

الشرق باخرة تبحر في الظلام

وتغرق أمام الجميع

الشرق يتمايل على حافة القصيدة

ويلتصق

بأقدامي

صورة مشوهة للتصدير

من السخرية

أن أتكلم عن آلامي في وصفة الطبيب.

***


أحلام تتقاطع

أصدقاء يختفون

وآخرون

في البرلمان

ينتفخون

بالنقود

وثائق رسمية مزوّرة

حياة مزوّرة

بجيب القميص

مصيري عالق

بجواز سفر أجنبي

دخان يملأ المشهد

نلتقي بعد عشرين عاماً في المطار

نبصق على الأحلام

باصات ملوذنة

تلقي بحياتي

وسط الانكليز.

طلاقات وزواجات

سرية

الشهوة

تنكسر

على السرير في غرفة النوم

أبنائي لا يشبهونني

يتشاجرون بلغات أجنبية

الموصل تتحرر- أسطوانة قديمة

ألتقي برئيس أعظم دولة

حمايته يحدّثونني عن الأكل العراقي

كلماتي عالقة

في الشام

فواتير كهرباء


أدوية

تنتظر امعائي

على الرف

لا نقود

في جيبي الأيسر

النمل يهجم على الحديقة

العشب يتصاعد نحو القلب

يتصاعد

ستتزوج طيبة العام المقبل

السيارة تعطلت

ضاعت بطاقة التموين

موعد مع الطبيب

أحذف اسم حبيبتي

من الموبايل

من الرسائل

أرسل بعض النقود الى البرازيل

بكاء يذبح صورتي الشعرية

النبيذ لا يزال على الرف

ينقطع الاتصال

السكائر ستنفد

غرامات

في صندوق البريد

النمل

سيأكل

المكتبة

ساعة ترنذ

عند الثامنة

ويبتدئ

يومي من اليسار

مشنوقاً

خارج الحدود.


في مطار تركيا

لم يجرؤ ضابط الجوازات

أن يكلمني كلمة واحدة

ابتسم لي

ودخلت اسطنبول مثل طائر غريب

تذكرتُ احتجازي في مطار صنعاء

تذكرتُ العقيد ماركيز

الذي منعني من دخول بيروت

تذكرتُ الضابط الأردني

الذي أعادني إلى الشام.

لكنني

وحدي

أتدافع على ورق الجرائد

وسط القتلى

والزعماء

والأخبار العاجلة

تريّثْ قليلاً

أيها المذيع

ولا تطلق النار.

يرنّ الموبايل

رسالة تصلني من أحد الاصدقاء

الغالي أخي وحبيبي

كل عام وأنت طيب

إنه صباح اليوم الأول

من عيد الفطر.

***


اكتشافات متأخرة تستحق الانتحار

بعد خمسين عاماً

اكتشف الشاعر

أن بين العراق وأوروبا

تركيا فقط

قالها لي

صديق مهاجر

يسحل حياته في شاحنة كل يوم

دولة واحدة

كانت تفصلني عن السعادة

للجغرافيا ضحايا أيضاً.

لو أستطيع

أن أمحو

هذا القدر بممحاة

أو بمجرفة

أعدل من هذي القصيدة قليلاً.

***


حمير يتجمعون في الذاكرة.

أموت من الضحك على هذه الجملة

كيف كتبتها أصابعي

كيف خرجتْ من أحشائي

مفردات غير مهذبة تقتحم حياتي

تلتمع بصوت المذيع

اللغة تنجرح

تنزف قتلاها بعيداً عن الضمير

ومشاعري تجفّ على حبل الغسيل

المشاعر تقودني

الى زجاجة فارغة

الى ابنتي الأميركية جود (جود ابنة الشاعر ولدت في الولايات المتحدة عام 2017)

وهي تناديني أيضاً

مخففة من جهة اليسار

Ali

ليس هذا كل الذي جرى

الاحساس يضطرب

يمتلئ بالدخان

وعلى شفتي

آثار قبلة

تركتها حبيبتي المتزوجة في المطار.

***


في السوق فخذ امرأة شقراء

تطلق النار على شهوتي

تحرّك المشهد

بحسرة أشعل سيكارة أخرى

بعيداً عن السرير

الجمال يواصل امتدادي

مع الزمن

سكران هذا القدر

الذي أوصل حياتي الى هذه القارة

ومرةً أخرى

أشتهي حلمة امرأة شقراء

أقترب من فخذها

من أنوثة الجسد

لحم النساء

يوتّر

أعصاب العالم

أو ربما أعصابي فقط

يدفعني كل يوم

الى السوق

الأنوثة الملوّنة تمتصّ نظرتي

تهزّ عضلة القلب

ثم يترهل

المشهد

الشعر يهندس العالم قليلاً

مستودع للأحزان

يطارد ضحاياه.


الكهرباء تواصل تدفقي الى جهات مجهولة

الى أصدقاء لا أعرفهم.

نهر دجلة معلّق على الحائط

داخل الإطار الخشبي

وعليه بعض الغبار

على الرفّ

قرب المغسلة قرب وغف الصباح

قرب صابونة حمراء

مرايا صغيرة

تعكس تجاعيد العالم

أتذكر صورتي في دفتر الخدمة العسكرية

اتذكر البندقية

الأولى

وشتائم

العريف

أعقد صفقة من الخمر

وأنحدر بغرائزي الى الماضي

الى أثاث الوطن الاولى

ربما ستنتهي هذه القصيدة

وأعود

الى حياتي

الى حياة

تتجمع قرب هواء المدفاة

قرب رماد السكائر

قرب سرير له قضبان

كأنه زنزانة.

أبوس شعر جود

أبحث عن ذكرى

في بلاد العجائب

الجميع يبتعدون

يبتعد الحب أيضاً

يختفي مع أدوات المطبخ

ولم يعد الشاعر

صالحاً للاستخدام

وبهدوء

تتكسر مشاعري وسط العائلة

إنه عامي الخمسون

يطلق النار في الهواء

بعيداً

عن العراق.

(20-6-2018، ديموين، ولاية ايوا الاميركية).



















حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم