الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

عندما تستخدم إدارة ترامب نصًّا مقدّسًا وتتعثّر: بولس الرسول و"القراءة المبتورة"

المصدر: النهار
هالة حمصي
هالة حمصي
عندما تستخدم إدارة ترامب نصًّا مقدّسًا وتتعثّر: بولس الرسول و"القراءة المبتورة"
عندما تستخدم إدارة ترامب نصًّا مقدّسًا وتتعثّر: بولس الرسول و"القراءة المبتورة"
A+ A-

النتيجة عكسية، وليس كما توقعتها إدارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب. إطلاق نار كثيف عليها، وردود الفعل لا تزال تتراكم، رفضا لدفاع وزير العدل جيف سيشنز عن سياسة ادارة ترامب حول المهاجرين غير الشرعيين، لا سيما فصل الاولاد عن أهلهم، باستخدام بولس الرسول، وتحديدا رسالته الى أهل رومة 13، للتبرير.


آخر المستجدات، شكوى رسمية تقدم بها الاثنين مئات القساوسة من الكنيسة الميثودية المتحدة التي ينتمي اليها الوزير نفسه، من اجل "التعمق في أفعال السيد سيشنز ودفاعه الذي أدى إلى إلحاق الضرر بآلاف البشر الضعفاء". ادانة واسعة في الاوساط المسيحية، البروتستانتية (اسقفية وميثودية وانجيلية...) والكاثوليكية وغيرها، على أعلى المستويات، وصولا الى الفاتيكان، حيث أكد البابا فرنسيس تأييده لموقف مجلس الاساقفة الكاثوليك الاميركيين، مشددا على ان فصل الاولاد عن أهلهم "غير اخلاقي" (رويترز).  


آية في الكتاب المقدس تعثرت بها إدارة ترامب بقوة. رومة 13 تحت الضوء. "ليخضع كل امرىء للسلطات التي بأيديها الامر، فلا سلطة الا من عند الله، والسلطات القائمة هو الذي اقامها. فمن عارض السلطة قاوم النظام الذي اراده الله، والمقاومون يجلبون الحكم على انفسهم..." (رومة 13: 1). الاهتمام الاعلامي بها واسع في الولايات المتحدة وخارجها، توضيحا للنص، وتعليقا على سيشنز. 


كيف يشرحها اختصاصيون بالكتاب المقدس؟ الى من يتوجه بها بولس الرسول؟ وهل يمكن السلطة ان تستعين بها للتبرير، كما فعلت ادارة ترامب؟ اسئلة كثيرة، ورأيان لاختصاصيَّين، كاثوليكي وإنجيلي، والتوافق مشترك على ان ادارة ترامب "انحرفت عن اهداف النص، لانه لا يُطبَّق عليها، وهو ليس موجها اليها أصلا"، على قول النائب العام للرهبانية الانطونية الباحث في الكتاب المقدس الدكتور الاب انطوان عوكر لـ"النهار"، بينما يؤكد القس أديب عوض من السينودس الانجيلي الوطني في سوريا ولبنان أن إدارة ترامب "استخدمت نصّاً مقدّساً في غير سياقه الأصلي ومراميه". 

 عوكر و"الخبرات الفاشلة مع السلطات" 

أولا، تحذير من "الانحرافات التفسيرية، وايضا الايديولوجية" للنص المقدس. "قراءة مبتورة" لرومة 13 أشعلت الجدل حولها. "التفسير الصحيح للنص يوجب ان تتم قراءته في اطاره الأدبي. والإطار الأدبي لرومة 13 واضح جدا"، وفقا لعوكر. "بولس الرسول يكتب تحديدا الى جماعة المؤمنين حول اخلاقيات سلوكهم المرتكزة على المحبة". والمحبة مزدوجة. الفصل 12 يخصّصه للتكلم على المحبة داخل الجماعة، بينما يتابع في الفصل 13 كلامه على المحبة خارجها.


وفي الحصيلة، هدفان واضحان لرومة 13، الأول "بولس الرسول يطلب من المؤمنين التعاطي مع السلطات من دون خوف، خصوصا اذا كانوا يقومون بالخير". والثاني "تخطي هذا الخوف لابراز وجه المحبة. وهذا يوجب عدم ملاقاة الشر بالشر. تجاه الشر، نتعاطى بخير، كي نغيّره".  


بحث في أسفار الكتاب المقدس. الفكرة التي يطوّرها بولس في رومة 13 تستمد جذورها من العهد القديم. ويشرح عوكر: "عندما كان الانبياء يخاطبون الشعب اليهودي ويشددونه في الصعوبات التي كان يواجهها، كانت تمر فترات لا يعودون يستطيعون ان يشرحوا لماذا تسلطت أمم غريبة، مثل بابل وأشور وغيرها، على شعب الله. بتسلط شعب على آخر في تلك العهود، كان يُعتقد ان الهه اقوى. وقد شرح الانبياء للشعب ان هذا التسلط مرده خطيئته، وان تلك الشعوب المتسلطة عليه ادوات في يد الله".  

 في العهد الجديد، يسجّل ما يسمّيه "خبرتين سلبيتين بين المؤمن والسلطات"، هما خبرة قتل يسوع، واضطهاد نيرون للمسيحيين. والخبرتان "فاشلتان مع السلطات"، و"لا يمكن ان تنطبق عليهما رومة 13"، على قوله، "اذ كيف نخضع لهذه السلطات وهي فاشلة؟" في الخبرة الاولى، "اذا قلنا ان هذه السلطة خيّرة، فلا يمكن ان نفهم كيف ان قتل يسوع خير". وفي الثانية، "كيف يمكن شرح طلب بولس من المؤمنين من أهل رومة (الذين وجه اليهم رسالته) الخضوع لسلطة نيرون الذي يضطهدهم، وان هذه السلطة من الله؟" على ما يتساءل.  


"التعامل مع السلطات تبشيري" 

الجواب يحتاج إلى مزيد من الشرح. فكرة رومة 13 نفسها موجودة أيضا في نصوص أخرى في الكتاب المقدس، منها رسالة بولس الى طيطس، وفحوى ما يطلبه فيها بولس من المؤمنين، على قول عوكر، "القيام بالخير تجاه السلطات المنحرفة، كي يدعوا نعمة الله تمر بها من خلال عملهم الجيد، والتعامل معها كما يتعامل الله مع الشر. فكما يشرق شمسه على الاخيار والفجار، لا يتم التعامل مع السلطة، اكانت عاطلة ام جيدة، بالسوء". وخلاصة القول ان "التعامل مع السلطات، خصوصا اذا كانت منحرفة، تبشيري، شهادة في المحبة المسيحية".


مرجع آخر: رسالة بطرس الاولى (2: 13-15) التي تعزز الفكرة نفسها في رومة 13. ويتكرر طلب الخضوع للسلطة، "لكل نظام بشري من أجل الرب". ولكن هل يجوز الخضوع لسلطة سيئة؟ نسأل. "من الضروري مواصلة قراءة النص لفهم ما يريد بولس قوله في رومة 13، منعا لفهم سيىء او مجتزأ له"، على ما يجيب عوكر. يقرأ المزيد من النص. وما يُفهم منه ان "هذا الامر يفترض ان السلطة لا تقوم بالشر. واذا كانت تقوم به، فتكون فقدت دورها".  


ممنوع 

حسماً لاي جدل، يصارح عوكر انه "ممنوع ان يستخدم المتسلط او السلطة هذا النص". لماذا؟ "لان بولس الرسول يكتب الى المؤمنين عن علاقتهم بالسلطة. يقول لهم اذا كانت هناك سلطة، وان كانت متسلطة عليكم، فانتم تحققون انتفاضة، لكن سلميّة، بمحبة وتأدية شهادة، وليس بالعنف". وما يقوله ايضا هذا النص ان "السلطة لا يمكن ان تقول ان سلطتها من الله الا اذا كانت تفعل الخير".


ويتدارك: "لو كان بولس يتوجه الى السلطات، لما كان كتب في هذا الشكل. هذا النص مكتوب لاشخاص خاضعين للسلطات". أمّا ان تستخدمه السلطات لتبرير سلطتها، على ما حصل في الولايات المتحدة، فهذا يعني "انه تم تغيير الهدف الذي كتب بموجبه بولس هذا الفصل. وبالتالي لا يمكن السلطة ان ترتكز على نص لا ينطبق عليها. واذا استخدمته لها، فإن ذلك يكون خارج اطاره الصحيح".  

 عوض و"المحاولة الخبيثة" 

قراءة ثانية، والموقف إنجيلي. أن يلجأ وزير العدل الاميركي إلى الكتاب المقدّس "ليبرّر إجراءاتِه ومفاهيمَه"، ليس من حقّه، بل أضعفَ موقفَه حين حاول تقويتَه، خصوصاً أنه استخدم نصّاً مقدّساً في غير سياقه الأصلي ومراميه"، على ما يؤكد القس عوض لـ"النهار". استخدامَه هذا لم يأتِ، في رأيه، "من دافع إيماني صادق. ففي كلمة الله أسمى الوصايا والتعاليم الإلهيّة والإنسانيّة التي تدوسها إدارتُه بنعالها كل لحظة. هذا الاستخدام محاولة خبيثة (أو غبيّة!) منه للمس مشاعر فئة كبيرة مؤثّرة في المجتمع الأميركي، ويعلم الله مدى الضرر الذي ستسبّبه للنسيج الوطني الأميركي والاجتماعي، عاجلاً أو آجلاً".


ويتدارك: "قد يكون سيشنز صادقاً مع نفسه واقتناعاته في ما قاله، بل أميل إلى الظن أنه قال ما قال عن اقتناع وطيبة قلب... وهنا بالضبط تكمن مشكلة العالم مع الولايات المتّحدة الأميركيّة؛ فقد أصبح أصحاب القلوب الطيّبة هناك مجرّد روبوتات بريئة يتلاعب بها أصحاب المخططات الشرّيرة من "الدولة العميقة". أكثر دولة تستخدم تعابير من الكتاب المقدّس، وقواميس الفضائل، كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافيّة... وأكثر دولة زرعت الأرض إرهاباً ودماراً وقتلاً وتشريداً وخداعاً وشراً وحروباً وإفناءاً وتشويهاً". 


عدسة خاصة  

رومة 13... و"إقرار بأننا ننظر الى هذا النص بعدسة خاصّة"، على قوله. "غالبيتُنا الساحقة تحبّ أوطانها، ولا مشكلة حقيقيّة عندنا مع هذا النص لكوننا "وطنيّين"، بمعنى أننا محبّون لوطننا، ونفتخر به ونريد أن نثق بحكومتنا. لذا، يجب أن نتذكّر أن هذا النص لم يُكتب حصراً لمسيحيي القرن الحادي والعشرين، بل لمسيحيين كانوا يعيشون في كنف الأمبراطوريّة الرومانيّة الوثنيّة، اضطهدتهم حكومتُها بلا هوادة، وفرضت عليهم عبادة الأمبراطور أو الموت أبشع الميتات. كُتب لمسيحيين عاشوا تحت الحكم العثماني الجائر الذي لم يعدم وسيلة في قهرهم وسلبهم وإيذائهم وإجبارهم على ترك ديانتهم. كُتب للمسيحيين المصريين تحت حكم الحاكم بأمر الله، للمسيحيين الذين عاشوا في صين ماو تسي تونغ والدول الشيوعيّة، وكل دولة تضطهدهم على أساس ديني. لا يجوز أن نلجأ إلى هذا المقطع في حال الحكومات الديموقراطيّة الحديثة لنبرّر تصرّفاتها".

ما المطلوب من المسيحيين بموجب رومة 13؟ يوضح عوض ان "المقطع كلّه يدور حول طلب واحد نجده في الجملة الأولى من الآية الأولى: "لتخضع كلُّ نفس للسلاطين الفائقة" (عبارة تعني الحكّام مطلَقي الصلاحيّة)، وكل ما تبع توسّعٌ في الفكرة وشرحٌ لها". الخضوع لشخص أو شيء يعني "أن نستسلم له"، على ما يشرح، "أن نتخلّى عن حقٍّ لنا، أو امتياز أو رغبة إلخ، كي نحقّقَ هدفاً أسمى أو أوسع. الخضوع ينطوي على قيامنا بعمل لا نعمله عادةً".  


أما طلب بولس بالخضوع للسلطات العُليا، فـ"واسع جداً"، بتعبيره، "وقد يعني أموراً عدة. عندما يكتب الرسول بطرس في موضوع شبيه (1بطرس 2: 13 - 17)، يذكر بالتحديد الأمبراطور (الملك) والحكّام (الولاة). ربّما جَفَلَ المسيحيون الأوائل من الوصيّة بأن يُخضِعوا أنفسَهم لسلاطين، مثل نيرون وبيلاطس وهيرودس! ربّما فضّل "الغيورون" طريق التمرّد والثورة؛ لكن كِلا بولس وبطرس دَعَوا إلى طريقٍ آخر. بولس بالتحديد، وفي مقطع رومة، دعا إلى دفع الجزية. وتساءل بعض المسيحيين لماذا عليهم دفعها من المال الذي كدحوا في تحصيله، لسلطة تضطهدهم وتقتلهم؟ كان جواب بولس أنّ المسيحيين مدعوون الى أن يكونوا صانعي سلام (رومة 12: 14– 21). على المسيحي أن يكون مواطناً صالحا،ً رغم ما قد يعانيه من ظلم حكّامه. لا يجوز أن يحارب السلطة بسلطة، أو القوة بالقوّة. سعت المسيحيّة منذ البداية إلى طريق السلام... فأثمرت وأفلحت". 

"يُخطئ المسيحي..." 

ويضيف: "يربط رومة 13 بين السلطة والعنف. العنف جزء من العالم الساقط الذي نعيش فيه. الحكومات هي المسؤولة عن الحروب والإعدامات والمظالم، بل تحافظ على الأمن من خلال العنف، بدعوى أنّ النظام أفضل من الفوضى التي تجلب عنفاً أشدّ. من الملاحظ هنا أنّ بولس يتكلّم على الحكومات ودور المسيحيين الذين هم تحت سلطانها، ولا يتكلّم على المسيحيين الذين هم في الحكومة/ السلطة".


موقف عوض حازم. "يُخطئ المسيحي الذي يستخدم هذا المقطع لمصلحة مسيحيين هم جزء من السلطة. وهذا بالضبط ما فعله السيّد سيشنز. فهو جزء من السلطة، وليس كبولس المستهدَف من السلطة". ويثير تساؤلات: "هل كان مقبولاً أن يشارك مسيحي السلطات الرومانيّة في صلب الرب يسوع، أو في إعدام بولس وبطرس وبوليكاربوس وغيرِهم؟ لم يكن المسيحيّون جزءاً من السلطة، لكنّهم كانوا تحت سلطانها. هل كان بولس ليفعل كلَّ شيء طلبته منه السلطة؟ لا! كيف نعرف؟ الرجل الذي كتب رومة 13 أعدمته السلطات الرومانيّة".  


في خلاصة الأمر، "يمكن أن نظنَّ صواباً أن بولس قام بكل واجباته تجاه الدولة– دفع الضريبة المتوجّبة عليه– أطاع القوانين وفقا لطاقته وحدود إيمانه، فلم يسجد لقيصر في وقت كان السجود له هو القانون، ومخالفته تستوجب الموت. وقبِل المسيحيّون الأوائل شرفَ الشهادة، ولم يسجدوا لقيصر". 

[email protected]

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم