الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

الطريق إلى سلمى

المصدر: "النهار"
نيروز منّاد - كاتبة سورية
الطريق إلى سلمى
الطريق إلى سلمى
A+ A-

كانت حرارتهُ المرتفعة هي السبب الوحيد في بقائي إلى جانبه، على رغم أنني لا أطيل البقاء عادةً مع شخصٍ انتهى منّي. 

عندما تعافى وفتح عينيه كانَ أولَ ما قاله: ما الذي وضعكِ على هذا الطريق!

في العودة إلى بداية كل شيء. كنت في الثالثة والعشرين من عمري، عندما أنهيتُ دراستي الجامعية ورحتُ أبحث عن عملٍ يناسب دراستي. في تلك الفترة، تعرَّفتُ من خلال صديقةٍ مشتركة، إلى صحافي أربعيني أنشأ جمعيةً تهتم بشؤون المرأة. قابلته في منزله المكوّن من غرفتين فقط، وهو بشكل عام غير مرتّب ويخلو من أبسط قواعد النظافة. لاحظتُ وجود بقايا طعام تحت السرير. أيّ رجل طبيعي يضع طعامه تحت سريره؟

بدت صديقتي مرتاحةً على كلِّ حال.

تحدّثا في كثير من الأمور، فيما كنت صامتةً أتأمل هذا الكائن الغريب المحاط بكل أنواع القاذورات. قالت صديقتي: سلمى تبحث عن عمل. فنظر إليَّ، وسألني باهتمام:

- أنتِ متخصصة في مجال الترجمة، أليس كذلك؟ ما رأيكِ أن تترجمي لي مقالاتي؟ الأجر ممتاز، ولن ألزمك بموعد تسليم محدد. يمكنكِ في الوقت نفسه أن تبحثي عن عمل آخر.

خلال لقاءاتنا المتكررة التي كانت بهدف النقاش حول العمل أو لتسلّم راتبي الشهري، أعترف بأني بدأتُ أحبّه.

كان الأمر يمثّل تحدياً لي. فهو رجلٌ لا يؤمن بالحبّ على الرغم من كونهِ يمارسه بكثرة، وهو أمرٌ لا يخجل من التصريح به. غير أنّ كلَّ شيء تغيّر ذات يوم بعد نقاشٍ طويلٍ عن الحبّ والزواج، انتهى بإنهاءِ شكلِ الحياةِ التي كنتُ أعرفها في ما مضى :

- لا أؤمن بهذه الفكرة. أعتقد أنَّ وجود شخص آخر يشاركك مسكنك أربعاً وعشرين ساعة، هو عبء حقيقي، أنا لا أستطيع تحمّله. في حياة المرأة تفاصيل لا أحبّها؛ العادة الشهرية مثلاً، الحمل، الولادة، فضلاً عن تركيبة الجسم في حد ذاتها، التي تجعل الإنسان كائناً قذراً يفرز طوال الوقت مواد قذرة، بدءًا برائحة فمه وليس انتهاءً برائحة عرقه. لا أستطيع تحمّل ذلك، ولست مضطراً لتحمّله ببساطة.

- ولكن ماذا عن الحبّ؟

- أنا أحبّ الحبّ وأقع في الحبّ كثيراً، لكنَّ الارتباط أمر آخر.

- أليست الرغبة في مشاركة مَن تحبّ تفاصيل حياتك، هي جزء من الحبّ!؟

- لا أعترف بهذه التسميات. فبمجرد أنني أعطيتكِ من وقتي وروحي ومشاعري، هذا يعني أنَّكِ شخص مهمّ في حياتي. الأمر ليس كما لو أنّي أقفز إلى السرير مع كلّ امرأةٍ أقابلها. أرفض بعض النّساء، والكثيرات يرفضن إقامة علاقاتٍ معي. هذا طبيعي جداً ولا أعتبره رفضاً لشخصي مثلاً.

- أنتَ تتحدث عن الجنس...

- الجنس حبٌّ من نوع آخر. الحبّ هو تفاعل كيميائي بين شخصين، والجنس استجابةٌ لهذا التفاعل.

على الرغم من أنَّ كلامه هو محض هراء فارغ، إلَّا أنّه أقنعني في ذلك العمر الذي كنته. بل أنَّ الأمر تجاوز حدَّ الإقناع، فقد تبنّيتُ فكرته كأنَّها أمرٌ مسلَّم به.

في نهاية ذلك النقاش الطويل لم نصل إلى أيّ نقطةٍ معينة في الحديث، لكنَّنا وصلنا إلى السرير بسرعة. هناك فقدتُ بكارتي بقسوةٍ ووحشيةٍ لم أفهمهما. كنت أحلم بعلاقةٍ رومنطيقية هادئة...

أشعل سيجارةً بينما كنتُ أرتدي ثيابي، وقال أحبُّ التدخين بعد الجنس.

في تلك الفترة كنتُ واقعةً تحت تأثير أفكاره الغريبة وحياته الخالية من أي أعباء، والحرية المفرطة التي يعيشها ويمارسها. كنتُ أراه كما لو أنَّه ظاهرة غريبة. كنتُ مفتتنة به، بحيث أنَّ كل ما كان يمارسه عليَّ من شذوذٍ في السرير وخارجه، لم يكن يبعدني عنه البتة.

مع مرور الوقت اكتشفتُ أننا لم نكن حبيبين. اكتشفتُ أننا لا شيء إطلاقاً، وقد واجهني بسيلٍ من التجريح والشتائم عندما صارحتُه بحقيقة نفوري من أسلوبه معي.

انتهى الأمر بأن دفعني خارج المنزل بعنفٍ شديدٍ جداً لم أكن أتوقعه. وقفتُ خارج منزله مُسندةً رأسي إلى بابه أبكي. كان الأمر قاسياً جداً وأردتُ أن أتشاركه مع شخصٍ ما، فلم أجد أمامي سوى الطبيب الذي لجأتُ إليه يومَ فقدتُ بكارتي لعلاج النزف الذي أصابني:

- أنا مدركة لكونك طبيباً نسائياً ومهنتك لا علاقة لها بالاستماع إلى قصص المرضى، لكنَّي بحاجة لأن أحكي ما يحدث معي، وليس هناك من شخصٍ مناسب لهذا في الوقت الحالي.

حكيت له عن علاقتي المنحرفة مع الأربعيني العنيف التي دخلت شهرها التاسع. بدا متفاجئاً في بعض الأحيان، وفي لحظات أخرى حزيناً. عندما أنهيتُ روايتي وأنا أبكي ذلك البكاء الذي تشعر فيه بأنَّ قلبك سيتوقف، جلس قبالتي وقدّم لي منديلاً وهو يتنهد. صمت لدقائق ثمَّ قال :

- هل ستستمعين إلى رأيي فعلاً أم أنّك هنا لتزيحي عن كاهلك ما تفكرين فيه فقط؟!

- أحتاج إلى مساعدة وسأنفذ كل ما ستأمرني به.

- لن آمرك بشيء. في الحقيقة سأرجوكِ أن تنسي كل ما حدث. إنَّه إنسان أناني وسافل. الأمر بالنسبة إليه مثّل تحديَّاً، كونك عذراء، وأراد أن يمارس الجنس مع العذراء. هذا كل ما في الأمر. ارتكبتِ خطأً فادحاً، لكنَّ ذلك لا يعني أنَّكِ لا تملكين فرصة ثانية. انسي وصحّحي مسار حياتك.

من بابِ بدءِ مرحلةٍ جديدةٍ من حياتي، باشرتُ العمل لدى طبيب للأسنان يدعى تمّام. لم يكن هذا طموحي على كلِّ حال لكنَّه أحسن حالاً من الفراغ. بعد حوالى أربعة أشهر من انقطاعِ علاقتي بالصحافي جمال، علمتُ أنَّه تزوج. لم يكن الأمر مزعجاً فحسب بل كان قاتلاً، وهذا ما جعلني شاردةً طوال الوقت خلال عملي في العيادة. سألني الطبيب عن سبب شرودي.

في تلك السنّ وبعد تجربتي القاسية مع جمال، بدت جملة "سأسمعكِ" رائعة. أعترفُ أني كنتُ واقعةً تحت تأثير بعض أفكار جمال، ما جعلني أرى في الدكتور تمَّام صديقاً رائعاً. اقتربتُ منه وعانقته. كان ذلك كافياً لأصل إلى سرير الفحص عاريةً والدكتور تمَّام فوقي.

كنتُ مثارةً بشدة على الرغم من كونه لا يجيد التقبيل ولم يتمكن من إثارتي بسرعة، لكنَّه كان رجلاً متاحاً في تلك اللحظة. وبدا ذلك جيداً.

بدأ فصلٌ جديد من حياتي كان أكثر انحرافاً في الحقيقة. تمّام كان من نوع الرجال الذي يقول صراحةً: أنا رجلٌ سافل، ولا أريد حبّكِ ولا الزواج بكِ.

لم يكن يحتال عليَّ ليأخذني إلى السرير، ولم يكن يسمّي ما بيننا حباً أو حتَّى صداقة.

كان هذا مريحاً نوعاً ما، فهو صادقٌ على الأقل.

كنتُ في نظره عاهرةً، فقد طلب مني ذات ليلة التوجه إلى منزلِ رجلٍ يودّ التأكد من كونهِ سيقدّم إليه الخدمةَ التي يحتاجها منه فعلاً، لذا وعده بسهرةٍ ممتعة، ورأى فيَّ الشخص المناسب لتلك المهمة!

- أخبرني الدكتور تمَّام عنكِ كثيراً...

أشعرتني تلك الجملة بإهانة. ما الذي أخبره الدكتور تمَّام عنّي مما يدعو إلى الفخر!؟

لا بد أنَّه حدثّه عن الليالي التي أمضيناها معاً. لم أقل شيئاً ولم أُظهِر أيّ رد فعل. ابتسمتُ كبلهاء وأنا أخلع حذائي بحركةٍ مثيرة. في تلك الليلة عرفتُ أنّي لن أعود إلى البكاء بسبب فقدي بكارتي، وعرفتُ أنَّي في الطريق مباشرةً نحو التّحول إلى عاهرةٍ حقيقية .

انتهت السهرة. كان الزبون في غاية الرضا. الدكتور تمَّام أيضاً كان راضياً. لكنه بعد نحو الشهر من تلك الليلة، طلب مني عدم الذهاب مجدداً إلى العيادة. قال إن زوجته تريد أن تعيّن أختها مساعِدةً له. اعتذر وقال: لا تقلقي، راتبكِ سيصلك كل شهر وفي الموعد.

في تلك المرحلة، كنتُ على علاقةٍ بالدكتور تمّام، وبصديقه كريم، وبأمجد الذي كان فرصتي الذهبية، كما أخبرني تمّام عندما دبّر لي مقابلةَ عملٍ في شركته. كنتُ أعتقد أنَّه سيكون سبباً في إبعادي عن تلك الفوضى، غير أنَّه جذبني إلى سريره أيضاً، بعد نحو شهرين من عملي لديه.

في العودة إلى ذلك الصباح، فقد غادرتُ منزل أمجد وتوجهتُّ إلى عيادة الطبيب نوّار. تحادثنا في أمور عامة. سألني :

- لم تعودي إلى ذلك الرجل العنيف، أليس كذلك؟

- أيّاً منهم تقصد؟

- ألم يكن رجلاً واحداً؟!

حكيتُ له القصة بتفاصيلها القذرة. بدا مصدوماً. لم ينطق بحرف واحد.

بعد أكثر من خمسِ دقائق صمتاً، قال :

- كانت مشكلتكِ مع رجل واحد فقط، فلماذا وضعتِ نفسكِ في قبضةِ كلّ هؤلاء الرّجال؟! أنا لا أفهم. ألا تريدين أن تستقرّي مع رجلٍ واحد؟

- هل تعتقد أنَّي لا أفكر في ذلك؟

- وما الذي يمنعكِ من تحقيقه؟!

- قصتي تمنعني، كيف سأخبرها! هل تعتقد أنَّ أحداً سيسرّه سماع هذه التفاصيل؟

- لستِ مطالَبة بإخبار قصتكِ لأحد، ولا حتى لزوجك. اقطعي علاقتكِ بكل ما مضى وابدئي صفحةً جديدة. تعرّفي إلى أشخاصٍ جدد. لن يظهر الماضي في طريقكِ إلَا إذا وضعتِه أنتِ هناك. لديكِ فرصة ثانية لا تفوّتيها. سلمى، أنتِ لستِ عاهرة بالفطرة. ما من امرأة ولدت لتكون عاهرة حتى لو بدت كذلك. أنتِ فتاة جيدة، فلا تستسلمي بهذه السهولة.

بدا ذلك الكلام رائعاً لكنَّ الحقيقة كانت أقسى. كان التغيير مع الوقت أكثر صعوبةً. اتصل بي أمجد في نحو الساعة الأولى، ودعاني إلى تناول العشاء معه الليلة. سرتُ في الطرق بغير هدىً ثمَّ عدتُ إلى المنزل. تناولتُ جميع حبوب المنوّم لديَّ. كنتُ أفكر بالحاجة إلى النوم والنسيان فقط.

استيقظتُ عندَ منتصفِ الليل على صوتِ طرقٍ على الباب. كان أمجد هو الطارق. فتحتُ لهُ وسقطتُ أرضاً. أخذني إلى السرير حيث غفوتُ حتى الصباح.

كان أمجد يشرب القهوة في المطبخ عندما استيقظت. دخلتُ عليه وجلستُ بجانبه ثمَّ قبلته. ابتعد عني وقال :

- سلمى، أنتِ بحاجةٍ للكثير من الراحة.

تجاهلتُ ما قالهُ، وشرعتُ في فكّ أزرار قميصه. أبعدني بعنفٍ وقال:

- عليكِ إيجادُ طريقةٍ أخرى لتجاوز ما فعله بكِ جمال. الجنس لن يجعلكِ أفضل. في الحقيقة أصبح الجنس مشكلتكِ الإضافية.

- جمال! كيف عرفتَ بأمره؟

- كانَ حديثكِ كلّه عنه ليلةَ أمس. مذ قابلتكِ أدركتُ أنكِ مصابةٌ بشدة، لكنّي تصرفتُ بحماقة. كانَ عليَّ أن أسمعكِ قبل أن أعاشركِ...

ثمَّ قال أشياء كثيرة لم أسمعها فعلاً. ذهبتُ بعقلي إلى تلك الصبية الصغيرة التي تريد الحبّ فقط. كنتُ أفكر فعلاً في سؤاله: ما الذي وضعكِ على هذا الطريق؟!

"لا أحد ذكيٌّ بما يكفي ليتجنَّبَ الوقوعَ في الخطأ، لكنَّ استمرار الخطأ نفسه هو نوعٌ من الغباء". كانت تلك آخر جملةٍ قالها أمجد قبل أن يعدني بالبقاء إلى جانبي حتى أتمكن من استعادة نفسي.

خلال فترةٍ لا تتجاوز الأربعة أشهر ظلّ أمجد فعلاً بجانبي، مبتعداً بجسده عن جسدي، في رغبةٍ منه لحملي على التفكير بصفاءٍ في كلِّ ما مررتُ به. مع الوقت، ابتعد تدريجاً حتى انتهى الأمر باختفائه من حياتي. أعترف أنَّ تلك الفترة عادت عليَّ بالنفع. فقد تجاوزتُ كلَّ ما حدث ووضعتهُ جانباً. عشتُ حياةً هادئة مستقرة تشبه الحياة التي نعيشها جميعاً خلف الأبواب. حياة لا يعلم عنها أحد ولا يكترثُ لها أحد على كلّ حال.

خلال تلك الفترة زرتُ الطبيب نوّار مرّتين، تحدثنا خلالهما عن أحوالي وبدا سعيداً بما وصلتُ إليه من استقرارٍ وتوازن. في الزيارة الثانية خرجنا نتمشى معاً وأوصلني إلى منزلي. صعدتُ لأجد أمجد يجلس على السلّم في انتظاري.

ليلتها أراد أمجد الاقترابَ مني لكنَّي رفضت. لم أعد تلك العاهرة. أردتُ تفسيراً لما فعله.

"لقد تزوجت". كانت تلك هي كلمة السر التي حرّرتني من جَلد الذات عقبَ اختفائه. فقد كرهتُ ما أنا عليه لوقتٍ طويل.

تحدثنا كثيراً تلك الليلة، حديثاً لم يكن ليذهب بنا في أيّ طريق. كان حديثاً لا معنىً له. استفزّته برودتي ولامبالاتي، فقال فجأةً:

- تزوّجيني...

- الآن، تعرض عليَّ الزواج؟

- أحبّكِ. ما كان بإمكاني البقاء معكِ كما كنتِ. كانَ الأمرُ صعباً على كلينا.

- وهو الآن أصعب...

- سلمى، أعيش نصفَ زواج، بنصفِ قلب وبنصفِ رغبة. قلبي ورغبتي يحملانني نحوكِ دائماً. أنا أحبّكِ.

في تلك اللحظة تلقيتُ رسالةً هاتفية من نوّار: "نمشي غداً معاً".

تلك الرسالة استفزّت أمجد، فاقتربتُ منه وعانقتُه. ثمَّ أخذتُ بيده وسرتُ معه نحو الباب. وداعاً أمجد!



حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم