الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

فصل من رواية أعياد الشتاء

المصدر: "النهار"
نغم حيدر
فصل من رواية أعياد الشتاء
فصل من رواية أعياد الشتاء
A+ A-

كان الغزالُ المصنوعُ من الشرائطِ المعدنيّة لافتاً. لُفّت الشرائطُ بإتقانٍ لتصنعَ سيقانَه الممشوقةَ المُثبَّتةَ في الأرض. وانحنت بدقّةٍ لتُشكِّلَ رأسهُ الذي يومئ باطمئنان، وأذنيه الصغيرتين المُطرقتين بخجل، وجسمه المضاءَ بلمباتٍ صغيرةٍ كأنّها براعم بزغَ الضوءُ منها لتتلقفه عيونُ السائرين. غزالٌ بطولِ إنسانٍ يُمكن احتضانه. 

على رغم أنّه طوال الأيام مشرئبٌ صامتٌ، إلّا أنّه لا بُدّ ينتظر شيئاً. تلويحةً ما من طفل مارٍّ إلى جانبه، أو ذرّات ثلجٍ ناعمةً تلامسهُ كي تُصبحَ ذوّابةً سائلة، أو كي تحومَ وتعبرهُ ثم تتجمعَ عند قدميه. ينتظرُ أجراس الكنيسة حتّى تُقرع كي يتكاثر إلى غِزلانٍ مضيئةٍ هُنا وهناك. أو شهينازاً جميلةً تُقرّب وجهها الناعمَ منه وترمقهُ بعينينِ مكحّلتينِ بالبردِ وتحزنُ لأنّه بلا عينين.

شهيناز التي قالت إنّ العُشب غزيرٌ وكثيفٌ عند قدميه، ومع هذا فليس في إمكانه الانحناءُ نحوه.

كثيرةٌ تلك الغِزلانُ التي عُلِّقت على حِبال الزينةِ عالياً أو ثُبِّتت إلى جانبِ النوافذِ وأمام مداخلِ المطاعم وعلى الواجهة الخارجيّةِ للجسرِ في منتصف المدينة. كثيرةٌ تلك المُصغّرة التي أصبحت علّاقةَ مفاتيحٍ أو صورةً مطبوعةً على الأكياس البلاستيكيّة، أو سُكّريةً فوق قالبِ حلوى بالكريما. كثيرةٌ هي الغِزلان التي رأتها شهيناز في الشهرِ الأخيرِ من هذه السنة. حملها الأولادُ كدُمىً محشوةٍ بالقطن، أو ركبوا فوقها في لعبةٍ مجانية. حتّى هي اشترت الأسبوعَ الماضي بيجامةً حمراءَ مطبوعاً عليها نسخٌ عديدةٌ للغزالِ ذاته واختارتها من دون أنْ تُجرّبها حتّى، وحين لبستها أخذت تعدو في حلمها بلا انقطاعٍ واستيقظتْ في منتصف الليل وهي تلهث متعرّقة.

أَنَّ الغزالُ في منتصف الساحة. مرَّتِ السياراتُ وأطلقت عجلاتُها الساخنةُ بخاراً في وجهه. تقيّأَ السُّكارى هُنا عند قاعدته وبصق العجائزُ دماً عند قدميه. أما شهيناز فقد تأمّلتهُ صاغرةً أمام أُنسه المسائيّ ذاك ليشردَ ضوؤه في عينيها. مدّت يدها إليهِ كأنّما تسقيه. أمالت رأسها أمامه كأنّها ودّتْ أنْ تُضحكه. رنّت من بعيدٍ أصواتُ أجراسٍ وأغانٍ. الليلُ راقصٌ ماجنٌ في مكانٍ وراكدٌ ساكنٌ في مكانٍ آخرَ. مشحونٌ بالحياةِ في مكانٍ ومسلوبها في بُعدٍ آخر.

مَشَتْ إلى ضفّة الشارع الأُخرى بتثاقلٍ وهي تزجر ذلك الفضولَ المُخجلَ الذي تحكَّم بمشيتها، فأوقفها متى أراد وحرَّكَ نظراتِها وثبَّتَها على الأشياءِ الغريبةِ التي ترويه، حتى إنّهُ جعلَ الطابة في مؤخّرة قبّعتها الأرجوانيةِ تتمايلُ مع حركةِ رأسها بكلّ الاتجاهات.

كاد سائقُ درَّاجةٍ أنْ يدهسها منذ قليل فيما هي تتفرّجُ على المرأةِ البدينةِ وهي تصنعُ الـ"الكريب" وتقدّمهُ ساخناً للمارّة، وفضولُها لم يقتنع بعد أنّه أصبحَ خطِراً عليها.

بَدَت شهيناز في الآونةِ الأخيرةِ كما لو أنّها تُهلوسُ بالبشرِ، بوجوههم وقُبّعاتهم وأكفّهم المُخبَّأة. ترصَّدت مِظلّاتِهم حتّى تُفتح، أفواههم حتّى تلتقم النبيذَ الساخنَ من الكؤوس الكبيرة. أصبح هذا الفضولُ بحراً تتداعى فيه وتغرقُ إلى أنْ ينتشلها منهُ صوتٌ ما، لكزةٌ من أحدهم على كتفها، فتتمدّدُ على شاطئ وعيها تكحُّ وتُخرج البشرَ من رأسها، كما لو أنّها تُخرجُ ماءً دخيلاً من رئتيها.

كان ذلكَ على سبيل الاستهزاء. لقد تعلَّمتْ أنْ تلتقطَ أنفاً ضخماً على بُعدِ أمتارٍ كي تضحكَ عليه. عيناً حولاء. بشرةً بثراء. أذناً مائلةً قليلاً أو حاجبين غيرِ متناظرين. لم ينتبه السائرون إلى أنّها ضحكتْ على سحّاب بنطالٍ نسيَه صاحبُه مفتوحاً ومؤخراتٍ برزتِ الدهونُ فوقها واهتزَّت، فتياتٍ صغيراتٍ سميناتٍ يركبنَ الأحصنةَ الكهربائيةَ فتبدو تحت ثقلهنّ كأنّها ستُشلّ أو تُنفق.

في الماضي كانت تُسمّي صديقاتِها بألقابٍ تصِفُ نقصهنّ. واحدةٌ أمّ كبّاش لشعرها المنفوشِ والأُخرى مجعوصة لوِقفَتِها المائلة، أما تلك التي كانت تتلوّى ببطء وهي تتكلمُ أو تضحكُ فسمّتها الدودة، والتي كانت تقعُ في حبِّ كلِّ من تصاحبهُ وتحلفُ إنّها لن تنساه فسمّتها صخرةَ الانتحار.

جميعهنَّ في الشّغل كُنّ تحت إمرةِ لسانِ شهيناز يتحرّجنَ من التقاطِها هفواتِهنَّ التي لم يكن بإمكانهنّ التحكمُ بها.

مؤكدٌ أنّهنّ اخترعنَ لها ألقاباً عديدةً لم تعرف بها ولم تهتمّ بهذا يوماً. في الشُّغل كانت فاتنةً، مِغناجَا. جمالُها أصيلٌ ذو رِفعة. ربما كانت هذه ألقابُها.

كان يوم الأحدِ الأخيرِ من السنة. بعدهُ سيأتي الإثنينُ الأخير. ومن ثمّ الثلثاءُ الأخير. ستُقبِل بعدها سنةٌ جديدةٌ بلا طعمٍ أو شكلٍ، كهُلامٍ، تُزجُّ فيها شهيناز عنوةً وتُرمى في تتابعِ أيامِها المُخيف كأنّها ارتكبت إثماً. بعضُ السنواتِ ثقيلةُ الدم. كثيفةٌ أيّامُها بليدةٌ فصولُها، وبعضُها الآخر نسمةٌ عليلةٌ صافيةٌ تهزُّ كلّ ما هو رقيقٌ في نفسها وترفرفُ معها المشاعرُ كأوراقِ شجر. شهر كانونَ هذا جمَّدَ التنبؤاتِ وجعلَ السنة الجديدةَ تبدو قاسيةً، إذ إنّها خرجتَ من رحمِ هذا الصقيع.

ودَّعت شهيناز الأيامَ الأخيرةَ هذه بحذر. سارَتْ في ساعاتِها بتمهّلٍ وتؤدة كأنّها تُخزّن تفاصيلَها في رأسها. إنّ من يراها بكعبها العالي أينما ذهبت، تُطقطقُ وتسيرُ وتتغنّجُ للأرضِ الصمّاء وهي تمشي بصعوبة، يعلمُ أنّها ليست جديرةً بالهرب من العامِ الجديدِ المقبل مهما كان بردُه... إلى أيّ مكان. الأحدُ الأخيرُ أنانيٌّ مع أنّ شهيناز أطاعتهُ وخرجت في ليلِهِ بعدما ارتدتْ بنطالها المُبطّنَ بطبقةٍ من القطن، الذي ضيّع تفاصيلَ فخذيها، وتأبطت لأجلهِ حقيبتها التي كادت ذراعُها تُشقُّ لفرطِ اللذاتِ فيها من حلوى وشوكولا محشوّةٍ بالويسكي السائلِ وأحمرِ شِفاه. لقد بدا هذا اليومُ أكثرَ جمالاً وإغراءً وعجَّ بالأغاني التي ملأتْ أُفق السوق. إنّه يتوعّدُ أولئكَ المُصابينَ بحمّى المشي المتثاقلِ بأنّه سيسحرُهم. جابتهُ شهيناز شريدةً في بهجته، تودّعهُ.

لقد وصلتْ إلى هذهِ البلادِ بُغتةً من دون أنْ تمتلكَ الفرصةَ كي تودّع أشياءَها الثمينة، ولهذا فقد حَلَفتْ إنّها ستمضي هُنَا تخترعُ لكلِّ شَيْءٍ زائلٍ طقوسَ وداعٍ، ولو كان هذا الشيءُ يوماً بارداً، صقيعاً سوف يذوي، سوقاً يعجُّ بالأنغامِ المتلاشيةِ في الأفق.

إنهم هُنا وما إنْ تبدأ السنةُ الجديدة، حتى يهمّوا بلمِّ الغِزلانِ من الشوارعِ وإطفاءِ الأنوارِ الجميلة. يعبّئونها في شاحناتٍ كبيرةٍ ويكدّسونَها فوق بعضها لتتشابكَ أسلاكُها المُطفأةُ وسيقانُها الرفيعةُ بحجّة انتهاءِ الاحتفالات. لا عيونَ لها كي يُدركوا ذُلَّها. لا أفواهَ كي يسمعوا حشرجاتِ إطفائِها الأخيرِ وتبعثُرَها فوق بعضها. لا دماءَ فيها كي تسيلَ حين يَلْوون الأسلاكَ كي تتسعَ الشاحناتُ لها. سينتظرون الوقتَ الذي تُصبحُ فيه زينةً قديمةً وعرضُها غير مناسبٍ كي يجوبوا السّاحاتِ كُلّها يُطاردونها. اثنانِ أو ثلاثةُ عُمّالٍ سيتناوبون على كُلّ رصيفٍ أو محطّةٍ مُستخدمينَ السلالمَ والرّافِعات، إمّا يربطونها من مِفصَلِ القدمِ أو من الرّقبةِ أو يلفّون الحبالَ حول وسَطها.

وحدها شهيناز تُدركُ قسوةَ العتمةِ بعد رحيلِ الغِزلان، ويعزُّ عليها أنْ يُصبحَ الليلُ بعدئذٍ فارغاً شاحباً يهربُ منه الجميع منزوينَ في الدفءِ كدببة. مساكين... أولئك الذين يرفضون أنْ يتلقّاهمُ الليلُ بأُنسهِ ويُمضونَ ساعاتِه العِظامَ في النومِ الثقيل. شهينازُ الليليّةُ لا تنام. بل تمنَّتْ لو كانَ في إمكانها أنْ تقتربَ من أسرَّتِهم كشبحٍ وتدنو من آذانِهم لتُسَرِّبَ أصواتَ اليقظةِ إليها وتصفَ لهم الليلَ بشفتيها المُرتجفَتَينِ بأنّه نجاة... جنّةٌ قابعةٌ في الباحةِ الخلفيّة لا يتفقَّدُ سِحرَها أحد.

ولم تحاول شهيناز أنْ تنفُضَ الظُّلمةَ عن نفسها يوماً. أو أنْ تَضبِط مُنبِّهاً كي يوقِظها صباحاً ويقطعَ الحبلَ الأخيرَ بينها وبينَ ماضيها. بقيتْ على عهدِها مع المساءاتِ الرّاقصةِ حين لا يجوبُ الشوارعَ إلّا مَنْ هُنَّ مثلُها أو سائقو سياراتِ الأجرةِ الذين يُقلّونَ شبيهاتِها، ولا يُدخّنّ على الشُّرُفاتِ سوى الموَلَّهينَ الذين أصابهمُ السُّهاد، أمثالِها.

في كُلّ البلدانِ، في كُلّ المدنِ النائيةِ والبلداتِ الصغيرةِ، ستبقى شهينازُ تعيشُ حياتها ليلاً.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم