الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

رشّة ملح- في فضاء التنوّع

المصدر: "النهار"
جواد الساعدي
رشّة ملح- في فضاء التنوّع
رشّة ملح- في فضاء التنوّع
A+ A-

لستُ ممن يضعون أنفسهم وعقولهم في قفصٍ عقائدي، حتى لو كان من ذهب. أنا طائرٌ حر، أطير كما أشاء، لا كما يشاء الآخرون. بعيْنَي صقر أرى حَبَّ الأفكار الإنسانية المتناثرة في هذا الكون الفسيح، ألتقط ما يناسبني وأرتفع به قدر ما يستطيع جناحاي. لك الحق أن تلتقط قبلي، ما يناسبك، أو ما يناسبنا معًا، أن ترتفع به وتسمو أكثر مني، ولكن ليس لك الحق أن تصوّب سهامك إلى جنحي لتمنعني من الطيران أو لتأخذني إلى أقفاصك أو أقفاص غيرك. أنا طائر حر، بين جمعٍ غفير من الطيور المبتهجة بفضاء الحرية واختلاف الألوان، يسعدني أن نكون، أنا وأنت، مختلفَيْن، ولكنْ كالسالب والموجب، متَّصلَين في دائرةٍ كهربائية واحدة، تُشعل الضوء، لتُضيء المكان.  

وحده الاختلاف والتنوع يضيء الحياة، يرفدها بحركةٍ لا نهائية، يبعد عنها شبح الموت ويجعلها قابلةً للاستمرار بشكلٍ أفضل.

الاختلاف والتنوع القائم على الإيمان بحق المختلف في الوجود والمساواة يعطينا الفرصة والقدرة على التميّز الإيجابي والاحساس السليم بذواتنا، يُنمّي فينا روح المنافسة والإبداع، يدفعنا نحو تقديم الأفضل، يُكسبنا احترام الآخر المختلف، يُظهر الإنسانية المزروعة، لكن المطمورة في دواخلنا، يبدد فينا الأحكام المسبقة، يمحو الصور المشوّهة عن الآخرين في رؤوسنا، ينقذنا من الغرور والنظر إلى ذواتنا بعدساتٍ مكبِّرة، يرفعنا إلى مستوى إرادة الله الذي جعلنا شعوبًا وقبائل، يذكّرنا بأن "أكرمكم وأتقاكم" أفعال تفضيل لا أدوات نفيٍ أو إلغاء، ولا تعني حصريةً لأحد.

الإيمان بهذا النوع من الاختلاف والتنوع يأخذنا إلى اليسر ويبعد عنا العسر، يحررنا من الأنانية، يجنّبنا لؤم الضغينة، يشذّب نفوسنا وينزع منها سموم الكراهية، يدفع حاطبي حروبنا المتواصلة إلى الإفلاس والبطالة، يذهب بنا إلى سلامٍ متين، يحطّم أمامنا أسوار التخلف، يفتح أبواب الرقي والتقدم، يجعلنا آمنين من سوء العيش في خوفٍ متبادل بين أبناء الوطن الواحد، يمتّن وحدتنا ويسدّ منافذ التدخلات في أوطاننا، يزرع في أجيالنا ثقافة السلام وثقافة الحياة القائمة على المحبة، يمهد الطريق لعدالة مرتجاة أو منتظَرة، يُزيل الغشاوة عن عيوننا فنرى عالمًا لم نره من قبل، يحطّم قيودنا الذاتية، يلغي ما أقمناه من حواجز وما بنيناه من جُدُرٍ بيننا وبين الإنسانية، يخلّصنا من شموليَّة الفكر ومن عنصرية مكشوفة أو مموّهة، قائمة أو محتملة، يزيح عن كاهلنا ثقل التاريخ وما لحقه من تزييف، يعدّل مسارنا الوطني والإنساني، يقتل يأسنا ويُحيي فينا الأمل بحياةٍ حرةٍ كريمةٍ آمنة، يضع أقدامنا على الطريق الصحيح لصون حقوق الإنسان في بلادنا، يحفظ ثرواتنا المهدورة ويوقف دماءنا النازفة في الحروب، يقرّبنا من الآخر فيمزق التنميط ويمنع التعميم المجافي للطبيعة، يكسر طوق الانغلاق على الذات ويوسّع فضاءات النظر من حولنا.

هذا النوع من الاختلاف والتنوع هو رحم الولادات الجديدة، فيه تتلاقح الإرادات الخيّرة ومنه تنبثق الينابيع؛ في أجوائه تنكسر غلواء التطرف وفي تربته ينزرع الاعتدال في الفكر والسلوك وتتعزز الديموقراطية كآليةٍ سلمية لتداول السلطة ورعاية حقوق الفرد والمجتمع، لا كسلّمٍ لبلوغ مراكز التسلط والنهب والفساد؛ وفي تربته أيضًا تزدهر المواطنة حيث يختفي التمييز العرقي والطائفي وتقام قاعدة العدالة المبنية على احترام الخصوصية في إطار الوطن الواحد والهوية الوطنية الجامعة المتصالحة مع الهويات الوطنية الأخرى، المجاورة والبعيدة.

هذا الاختلاف والتنوع يساهم في خلق مشهد كوني يظلله السلام ويحدوه السعي إلى دورة حضارية جديدة ترتقي بالسلوك البشري نحو الأنسنة التي لم يبلغها بعد على الرغم من كل الأديان والعقائد والفلسفات والتيارات الفكرية التي وقفت في وجه الوحشية والتمييز والاستغلال بكل أنواعه، وسعت أن يكون الناس سواسيةً، وبذلت الكثير من التضحيات في سبيل ذلك.

إنه الحب الإنساني المنتصر على الخبائث، الطارد للنوازع الشريرة، الجدير بأن يكون رايةً لأصحاب القلوب الطيبة، ومفتاحًا لقلوبٍ لم تختبر حجم طيبتها بعد.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم