السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

"أنباء عن ظهور المتسوّلة فاطمة من جديد في البسطة"

المصدر: "النهار"
أحمد عياش- أستاذ علم النفس الاجتماعي
"أنباء عن ظهور المتسوّلة فاطمة من جديد في البسطة"
"أنباء عن ظهور المتسوّلة فاطمة من جديد في البسطة"
A+ A-

تكاثرت الأقلام الصحافية وتزاحمت كاميرات الأجهزة المرئية واصطفّ رجال الأمن حول جثة إمرأة متسوّلة في منطقة البسطة ـ شارع الأوزاعي.  

وسُلطت الأضواء على مبلغ وفير من المال وشيكات مصرفية وصلت قيمتها الى المليون دولار تقريباً، وعرضت الصور ثياباً رثة وحالة سيئة لجثة نحيفة متهالكة عانت حتماً من أمراض مزمنة.

وربط الإعلام المحترم والرأي العام اللبناني المبجّل بين الجثة والتسوّل والحالة المزرية، وبين ورثة في عين الذهب في عكار حتى كاد المستمع أو المشاهد أو القارئ يعتقد ان خلف كل متسولة أو متسول أو فقير أو محتاج ثروةً مخفيةً كذباً ونفاقاً. بدأت ولم تنتهِ التعليقات اللبنانية الساخرة السخيفة عبر أجهزة التواصل الاجتماعي. وهنا نسأل:

هل كانت فاطمة عثمان فعلاً متسوّلة تبحث عن مال، أم أنها كانت تبحث عن عطف وحنان وتواصلٍ حرٍّ مع الناس؟

لو كانت فاطمة تبحث عن المال فلماذا تدّخره ولمن؟ لا، فاطمة كانت تهزأ وتسخر من المال ولا تريده، لا بل ربما لا تفقه معنى الأرقام وارتداداتها وحساباتها، ولو كان يعني لها شيئاً، لصرفته في المكان المناسب. ولم تكن فاطمة لتبحث عن مالكم أيها اللبنانيون لتسرقه، إنما كانت تبحث عن اي شعاع ضوء لعطف وحنان وتعاطف وتواصل كإنسانة لها روحها وكيانها رغم إعاقتها وصورة جسدها ومستوى ذكائها ، تاركة الدار وعين الذهب بما فيها من اهل وذهب، لأن الدافع لم يكن تسوّلاً أبداً، ولم يكن خداع الناس أبداً، بل رحلت في مسيرة عذابها الطويل لوحدها باحثة عن غرفة حب ودلال وغزل ومودة، عبر سؤال الناس الذين لم يروا فيها غير متسولة وامرأة جائعة بثياب متسخة ورائحة كريهة، من بادلها الحديث ومن استمع إليها؟

كانت كلما اقتربت من احد للكلام، ناولها الأخير الف ليرة لكي لا يسمعها، فكانت تكدس آلاف ليراتكم أيها اللبنانيون العظماء وترميها في مصارف، لأن لا حاجة لها بالمال، كانت تفعل ذلك كي لا يهاجمها قطاع الطرق وفتيان المخدرات ليسرقوها ويضربوها ويعذبوها.

كان في استطاعتها أن تشرب الماء وحدها، لكنها فرحت بأن يرويها جندي لبناني لأنها شعرت وقبل موتها أن شبان وطنها الشرفاء الطيبين ما زالوا هنا...

هي لم تدّخر مالاً سرقته عبر خداع التسوّل، بل هي احتارت بأمره وبكثرته كلما اقتربت لتقول:

"صباح الخير ،هل أجد عندكم كلمة عطف تشعرني بوجودي؟".

رمت المال في المصرف لأن لا حاجة لها به، ولكي لا يجعلها هدفاً لعصابات شبه انسانية تبحث عن فريسة في أزقة البسطة.

نعم كانت تعاني من تشمّع في الكبد، ورغم ظلمة ليلها لم تشعل شمعة واحدة في كبدها، فهل كانت تدّخر الشموع أيضاً!؟

كانت تدري ان ذلك يعني بداية رحلة الموت، فأرادته بديلاً ورديفاً لانتحار انتظرته منذ طفولتها، لأنها عاتبت الإله مراراً وناقشته كثيراً حول إعاقتها، وربما ظلم ذوي القربى لها الذين تحولوا فجأة أحباباً فرموا التراب فوق جثتها قبل ان تتعفن، وكأنها كانت فعلا تعيش وحيّة ترزق، بل ولدت متوفاة وعاشت ميتة وقضت غائبة عن وعي شعب ودولة ووزارة شؤون اجتماعية ووزارة صحة وجمعيات غير حكومية لا تبغي الا الربح، إما مالاً أو أصواتاً انتخابية. وفي أسوأ الأحوال تبغي تلك الجمعيات حسنات إلهية ليغفر الله لراعيها سرقاته القديمة وربما جرائمه.

لو كنتُ رئيساً للجمهورية في لبنان لأمرتُ فوراً بوضع اليد على مال فاطمة وحوّلته إلى مطعم شعبي يطعم الفقراء صباحاً ومساءً.

لم تكن فاطمة متسوّلة، كانت تبحث عن العطف والحب والحنان. ولو أرادت المال لصرفته على نفسها ولم ترمِه احتقارا في المصرف...

أنتم أيها اللبنانيون أحببتم ان تروا الجثة مثلما تفكرون، وليس كما هي في الواقع وفي البعد الرابع للمشهد. ابحثوا عن المال والمصالح كيفما اتُّفق، واستمرّوا بهدم آخر معاقل الكلمة الطيبة.

هل تعتبرونها اختفت، لا، بل هي كأكاكيفتش في قصة المعطف لنيقولاي غوغول، ستظهر في عين الذهب وفي شارع الأوزاعي في البسطة، وفي إدارات الدولة لتأخذ مالكم ، يا من تعرفتم وتحدثتم عن ثروتها الزائفة ونسيتم إهمالكم وتسبّبتم لها بالوفاة. 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم