الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

الطّرح التربوي الأنطوني: أيضًا وأيضًا... ودائمًا

الأباتي داود رعيدي- رئيس المدرسة الأنطونية الدولية - عجلتون
الطّرح التربوي الأنطوني: أيضًا وأيضًا... ودائمًا
الطّرح التربوي الأنطوني: أيضًا وأيضًا... ودائمًا
A+ A-

إذا ما أردنا أن نحدّد الإنسانية بكلمة أخرى، فليس أفضل من التربية تجسد الواقع الإنساني. فالإنسان الذي يشبه إلى حدّ بعيد الحيوان في تركيبته الفيزيائيّة، وقد أتحفنا كثيرون مشكورين بالتّشديد على هذه النّقاط المشتركة، يختلف عنه بالبعد التربوي أي بالصّفات الفكريّة والوجوديّة والروحيّة، وخصوصاً بعد التّطور في حياة الإنسان. فالإنسان متروك لذاته لا يتعدى حيواناً برياً يحوِّل المحيط البشري إلى غابة متوحشة. لذا كانت التّربية، التي هي بالأساس تراكم الخبرة البشريّة، والاختبارات، والحلول التي أوجدها الإنسان ليتجاوز مآزق حياته اليوميّة. لذا فالبعد التّربوي ليس جامداً ولا يمكن أن يكون جامداً، وحتّى المعلومات التي نعتقد أننّا استنفدناها ليست بجامدة، بل تتوق دوماً إلى الشّخصانيّة، لكي تصبح في الشّخص البشري خميرة تحمله إلى عالم أفضل.

أمّا على مستوى العمل التّربوي في الكنيسة، فهي تعتقد أنّه من واجبها الأوّل تنشئة الإنسان ليتجاوز المراحل الأرضيّة للوصول أوّلاً إلى الأبعاد الإنسانيّة، المرسومة علة ملء قامة المسيح. لذا تعتبر الكنيسة ذاتها أوّلاً أمّاً وثانياً مربياً في المسيرة البشريّة. إنّها تلد البنين لحياة جديدة بالمسيح، ولكنّها ترافقهم في وعيهم لانتمائهم الإلهي قبل وعيهم لانغماسهم البشري، أي تضع البشريّة أمام البعد الماروائي للإنسان، ليبلغ الإنسان إلى كمال ذاته في الألوهة. فالتّربية والتّعليم في الكنيسة ليسا قضية طارئة، ولا تاليًا جانبية، إنّما هي من صلب وعيها لذاتها ولارتباطها بالإنسان والخالق. 


أريد أن أؤكّد أنّ مدارسنا ليست معطًى بشريًّا، وإنّها ليست بحديثة العهد أو طارئة على مسارنا الرّهباني، وإن كان البشر يعملون فيه ومن أجله، هي عطيّة من الرّب ذاته الذي أراد من الرّهبانيّة أن تشاركه رسالته التّعليميّة كما تسعى في أوجه الرّسالات الأخرى إلى: التّبحر والعناية بالأرض والرّعايا فضلاً عن البحث العلمي... إلخ. 


أمّا في الرهبانيّة الأنطونيّة التي تقوم بهذه الرسالة، الرّوحية أوّلاً، ثمّ الفكريّة والانسانيّة والوجوديّة ثانياً، منذ ما ينيف عن 318 سنة، فالتربية هي جزء أساسي من رسالتها، لا بل هي مكوّن لوجودها في علاقتها مع المحيط الذي تتفاعل معه، وهو ما أنتج بعد حين روحانيّة أنطونيّة زرعت قرب الأديار والمؤسّسات، الرّجاليّة والنّسائيّة، (فعدد المتفاعلين مع رهبانيتنا الأنطونيّة يتجاوز المئة ألف شخص)، وعكست تفاعلاً بين تلك المجموعات، واختماراً للخبرة الإنسانيّة في بناء مجتمع أفضل. فالتّربية الأنطونيّة تنهل من تيار الفكر الإنساني الواسع، ومن تعاليم الكنيسة، ومن القدرة على الانفتاح والتّعاون في قلب مجتمع متعدّد، فنحن نؤمن بالوحدة في التّنوّع، ونساهم في الانفتاح على مختلف مكوّنات المجتمع التي، وحدها كفيلة في خلق إنسان كوني، علائقي مؤمن بدور الآخر، بعيداً من تزمته بموروثاته المنغلقة. لذا كان للرّهبانيّة الأنطونيّة، كما كلّ الرّهبانيّات، دور مهمّ في صقل مجتمع متعدّد متكامل منفتح خلق بيئة نسمّيها لبنان. هذه الشّخصيّة اللّبنانيّة هي التي ترفد العالم الشّرق أوسطي اليوم بالانفتاح، والتّعاون، وصرخة الحريّة والدّيموقراطيّة. إنَّ خبرتنا اللّبنانيّة، هي في أساس هذا الإنساني الهواء النّقي الذي تسعى الكثير من الدول المحيطة بنا، على تبنِّيه، لا بل تقوم، لأجل تطوّرها، باستيراده بطريقة أو بأخرى. وهي اليوم بأمسّ الحاجة له بعدما روَّجت لتربية متطرفة أصوليّة، أفقدت هذه الشّعوب الكثير من مكتسباتها. 


صحيح أنّ الواقع الذي نعيشه على مستوى مدارسنا يشير إلى أنّ في مجتمعنا عدداً كبيراً من التّحدّيات منها الاقتصاديّة ككلفة التّعليم وعدم انتظام عمل المؤسّسات الحكوميّة وغياب الإعالة من الدّولة وتداعيات إقرار سلسلة الرّتب والرّواتب وتأمين الكوادر البشريّة... إلخ. ولكن، نلاحظ أيضًا على مدى الأعوام الماضية الاشعاع الرّسولي لمدارسنا واستقطابها هذا العدد الكبير من التّلاميذ في حين يتضاءل العدد في المدارس الأخرى. كلّ ذلك يشكّل الأسباب الموجبة التي دفعت الرّهبانيّة إلى دعم هذا القطاع الرّسولي والحيوي بالرّغم من تشكيك البعض في صوابيّة هذه الاستراتيجيّة.    


هذا الواقع الذي يعاني مخاض الولادة، ليصل إلى برِّ الإنسانيّة هو المحفز الدّائم لرهبانيتنا للقيام بتلك القفزات النّوعيّة، على رغم الإحباطات التي تحيط بنا. فلقد استثمرت الرّهبانيّة في الربع القرن الأخير في التّربية، أكثر من استثماراتها الأخرى، ولا نتكلّم بالطّبع على رأس المال، إنّما نتكلّم على تحضير الرّهبان والعلمانيين الذين يعاونوننا على صقل شخصيّة تربويّة أنطونيّة مميّزة تساهم، في محطّات متنوّعة، في إنماء روح الانتماء للوطن، وروح الشّراكة والانفتاح على الآخر. إن ذهنيّة المشاركة والتّعاون بين المكرّسين والعلمانيّين، بين المسيحيين والمسلمين، بين أصحاب الخبرات وأصحاب الكفايات، جعلت عملنا التّربوي واضحاً وجلياً من خلال مؤسسات تشكل مثلاً يحتذى به. ولا أبالغ إن قلت إنَّ المدرسة الأنطونيّة الدّوليّة في عجلتون تشكل نموذجاً في العمل التّربوي، والتّواصل، والتّعاون غير المشروط لخلق بيئة روحيّة أنطونيّة حاضنة وشهادة على قدرتها على التّعاون والتّثاقف متخطّية الحدود والمقاربة اللبنانية للتربية بانفتاحها على البرامج الدولية وإقامة شبكة توأمة مع مدارس في الخارج بغية تعريز جسور التواصل وإغناء الطرق والوسائل المعتمدة في هذه المدرسة التي أضحت مختبراً تربوياً ليس فقط على صعيد لبنان فحسب بل أيضًا على صعيد عربي وعالمي. 


لقد تميّزت مدارسنا منذ نشأتها باستقبال الجميع من دون تمييز طائفي، وسعت جاهدة إلى تدريبهم على التّداول الديموقراطي والاعتراف بالآخر واحترام القوانين العادلة وتبني الجامع المشترك. وينبثق هذا التّوجّه من عمق الإنجيل ومن خصوصية هويتنا الأنطونيّة التي تبنّت الحوار كبعد أساسي لحضورها على "خطوط التّماس". 


وانطلاقاً من الإرث الحواري الأنطوني، تمكّنت مدارسنا المنتشرة في كل المناطق اللبنانية من أن تكون واحة للتلاقي في الأطراف كالبقاع والشّمال والجنوب، ومركزاً للتربية على شغف اللّقاء مع الآخر المختلف في قلب كسروان والمتن... إلخ. 


وفي وقت تلجأ بعض المجموعات التّربويّة المسيحيّة على إقفال مؤسّساتها، عمدنا وبكل قناعة وتضحية وجرأة إلى تمكين حضورنا في المناطق المختلطة. كما أنّنا شجّعنا إدارات المدارس على تنوّعها على إعطاء الأولوية للتثقيف الدّيني ودحض الأفكار المعلّبة والمسبقة وتنمية الذّاكرة الجماعيّة ونبذ كلّ تطرّف قاطعين الطريق على أيّ تشويه لرسالة مدارسنا التي تعلم 31 في المئة من الطّائفة الإسلاميّة 3400 تلميذ من دون المساومة على جوهر هويّتنا المسيحية. 


وأقول أيضًا في مجال آخر إنّ مدارسنا هي منبت ومختبر وقاعدة للوحدة المسيحيّة وترجمة لكلّ الجهود التي تقوم بها رهبانيّتنا في العمل المسكوني. عند هذا التّصريح، لا بد لنا من أن نجدّد، ولو لمرّة أخيرة، القناعة بأنّ مدارسنا كلَّها، بدون استثناء، هي مجال خدمة للكنيسة وللكنائس، ومشروع محبة، إذ إنّها تستقبل كلّ الذين يأتون إليها باحترام كلّي لحريّة وجدانهم، فتمتنع عن أي قهر وعنف وتلاعب بالعقول. أقول هذا لتذكير القريب قبل البعيد إن زمن التّبشير الدّاخلي قد ولّى وإنّ هويّتنا الكنسيّة الجامعة للجميع تظهرها المحبّة المجّانية الكاملة. 




بعيداً من الخيار ELITISME، تستقبل مدارسنا جميع التلاميذ من دون أيّ تمييز اجتماعي أو ثقافي أو ديني ...إلخ، ولا تكتفي بتشريع أبوابها لجميع الحالات الاقتصاديّة والمستويات الاجتماعيّة بل تجهد لتأمين فرص النّجاح خصوصاً لذوي الحاجات الخاصة. وقد تألّقت مدارسنا خلال السّنوات الست الأخيرة بتجهيز الأبنية والقاعات وتنشئة المعلّمين لاستيعاب أكبر كم من الشّبيبة التي تحتاج الى دعم خاص.


فإلى جانب المنهج اللّبناني، اعتمدت العديد من مدارسنا المناهج الأجنبيّة لتحسين المستوى التّعليمي للمتعلّمين ولتسهيل عودة المنتشرين إلى لبنان. زد على ذلك، عدم الاكتفاء بتلقين المعلومات بل حض التّلاميذ على التّفاعل والتّواصل وتنمية مهاراتهم للتّخفيف من آفة الرّسوب المدرسي. كما عمدت مدارسنا خطّة تربويّة للتّقييم والتّقويم لتمسي رائدة في هذا المضمار. فالنّتائج المدرسيّة الممتازة والفرح الذي يسود أروقة مدارسنا وجودة الإحتفالات المدرسيّة وتماييز تلاميذنا في المباراة الرّياضيّة والعلميّة والأدبيّة على صعيد وزارة التربية ونتائج الامتحانات الرسمية هو دليل على تمايز شبكة مدارسنا وتفوّقها.



الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم