السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

"الشعب المسيحي" أيضاً يفضل براباس

المصدر: "النهار"
غسان صليبي
"الشعب المسيحي" أيضاً يفضل براباس
"الشعب المسيحي" أيضاً يفضل براباس
A+ A-

(إلى روح غريغوار حداد وجورج مسّوح) 

يحتفل المسيحيون بمناسبات ثلاث رئيسية: ذكرى ولادة يسوع، وموته، وقيامته. اما حياته فلا "يحتفلون" الا نادرا، بمحطاتها. 

وتحديدا، وفي الجمعة العظيمة، يحتفلون كل عام بذكرى صلب المسيح. وهم يؤكدون منذ سنين طويلة، انه جاء ليخلصنا من خلال موته على الصليب.

لن اناقش هذه الغائية التي تُنسب إلى مجيء المسيح. فأنا ببساطة لست مؤهلاً، لاهوتياً، لذلك.

لكني في المقابل، سأتوقف عند ما يفترضه ذلك من علاقة بين حياته وموته على مستوى الوعي المسيحي. ففكرة "ان يسوع جاء ليموت من أجلنا"، ترسخ لدى المسيحيين قناعات، تكاد تكون راسخة.

أولاً، أنه لم "يُقتل" فعلاً، بل كأنه أراد بتدبير إلهي ما، أن يموت طوعاً.

ثانياً، ان موته لم يأت كنتيجة حتمية لنوعية الحياة التي عاشها او للتعاليم التي راح ينشرها: الحب، البساطة، التسامح، السلام، مساعدة الفقراء، معاشرة المنبوذين، التمرد على السلطات الدينية، اعتبار الإنسان فوق الشريعة، التشارك في الموارد المادية، وغيرها من القيم "المعارضة" لما هو سائد.

اي، لا يجري التركيز كفاية، على ان موته جاء كعقاب حتمي على نوعية حياته، بل على العكس، ان هذا المصير كان "مكتوباً" منذ البداية. اعتقد ان هذا "الفصل التعسفي" بين حياته وموته، جعل الكنيسة المسيحية تعلي من شأن العذاب والتضحية، على حساب الفرح والاشعاع الانساني، اللذين تعج بهما حياة يسوع.

ثالثاً، ان موته، ولأنه جاء بمشيئته هو، لم يكن فعلا وكما تدل عليه الاحداث، نتيجة لخيارٍ واعٍ اتخذه الشعب اليهودي. فمعروف ان بيلاطس البنطي، الحاكم الروماني، وبعد اعتقال يسوع، خيَّر الشعب اليهودي بينه وبين براباس المعتقل أيضاً. ومن ثم اتخذ قراره، واستنادا إلى خيار الشعب، بإطلاق سراح الثاني وصلب الاول. براباس هذا، ليس، كما يصوّره البعض، لصاً اعتقلته السلطات الرومانية، بل هو مقاوم يهودي، حمل السلاح ضد المحتل الروماني.

في اعتقادي ان معظم "الشعب المسيحي" في لبنان، وللاسف، يفضل أيضاً براباس، حامل السلاح في وجه الاحتلال: "الفلسطيني" و"السوري" خصوصاً، والإسرائيلي عرضاً. اما يسوع المسكين، المناضل اللاعنفي ضد كل أنواع الاحتلالات، الفكرية والروحية والجسدية والوطنية، فلم نعد نتذكر منه، الا انه، وبكل طيبة خاطر، مات ليخلّصنا نحن الخطأة. وما علينا، سوى رد الجميل إليه، من خلال الاماتة، وتعذيب النفس، والتضحية على انواعها.

هل يمكن التوفيق بين يسوع وبراباس؟

لا يبدو ان لدى معظم "الشعب المسيحي" مشكلة في ذالك: واحد للخلاص السماوي، وآخر للخلاص الارضي. ولست قادراً على توصيف خصوصية هذا النموذج البشري الذي ينتج من هذه التوفيقية العجيبة.

هل كان يسوع ليقبل بهذه التوفيقية؟

يعرض فيلم zeffirelli عن المسيح، لقاء قد يكون متخيَّلاً، بين يسوع وبراباس، يحاول فيه هذا الأخير إقناع يسوع بالانضمام إلى حركته. لكن يسوع يرفض ذالك رفضاً قاطعاً.

أعتقد، أن بين يسوع وبراباس، تناقضاً جوهرياً.

الأول لاعنفي، والثاني عنفي.

الأول مناضل من أجل جميع البشر، والثاني مقاوم من أجل أبناء ديانته فحسب.

الاول ينشد تحرير الأرض والانسان، كل الانسان، وهو لا يقبل بأقل من ذلك، والثاني يطالب بتحرير الأرض واستعادة السلطة، وهو لا يسعى إلى أكثر من ذلك.

نذكّر المسيحيين المتمسكين ببراباس، خوفا على وجودهم، وخوفهم هذا اكثر من مبرر، وخصوصاً مع انتشار الاصوليات والارهاب والنزاعات المذهبية في المنطقة.

نذكّرهم بأنه جرى تدمير أورشليم، معقل اليهود، ومن قبل الرومان، بعد نحو سبعين سنة على حركة براباس. في حين ان المسيحيين الأوائل، المسالمين بعناد، تمكنوا من إخضاع روما نفسها ابتداء من العام 313، تاريخ "اعلان ميلان"، الذي منع الامبراطور قسطنطين بموجبه، التعرض للديانة المسيحية.

لكن الكنيسة المسيحية للأسف، تطعمت منذ تاريخه، بلوثة السلطة والعنف الرومانيين، وعاد امثال براباس يقودون المؤمنين، المسيحيين هذه المرة، إلى أورشليم-القدس، مروراً بالطرق التي تؤدي إليها، في حروب صليبية لم تنته فصولها بعد.

لعل البابا فرنسيس، المحب والشجاع والمسالم كمعلّمه يسوع، يقف في وجه البراباسيين الجدد، المتربعين اليوم على امبراطوريات مسيحية، امثال ترامب وبوتين، ويعيد الاعتبار إلى القيم المسيحية الحقة.

أكاد أسمع، رد الفعل العنيف، على هذا الكلام، من معظم المسيحيين في بلادي: ماذا تنفع هذه المثالية، الا تسمع صراخ أقباط مصر، وقبلهم صراخ مسيحيي لبنان والعراق وسوريا؟

كأنكم تقولون وتجزمون، ان المسيحية في حد ذاتها، مثالية، وقيمها غير قابلة للتطبيق. هل تسلّمون وتعترفون بذلك؟

منذ 13 نيسان 1975، تاريخ بدء الحرب في لبنان، التحق معظم المسيحيين واللبنانيين بالباراباسية.

وهم في كل سنة، وفي الجمعة العظيمة، يمشون في جنازة من صلبوه!

يا لوقاحتكم!


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم