الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

هكذا ردّت المخرجة رنا عيد على الرقابة اللبنانية: فيلمي اونلاين واليكم كلمة المرور!

المصدر: "النهار"
هكذا ردّت المخرجة رنا عيد على الرقابة اللبنانية: فيلمي اونلاين واليكم كلمة المرور!
هكذا ردّت المخرجة رنا عيد على الرقابة اللبنانية: فيلمي اونلاين واليكم كلمة المرور!
A+ A-

في السابع عشر من أيلول ٢٠٠٤ عند الساعة السابعة مساءً، قرر المخرج الفرنسي كلود لولوش الإقدام على خطوة مفاجئة لعلها غير مسبوقة في المشهد السينمائي: تقديم عرض مجاني لفيلمه "الباريسيون" في عشرات الصالات التي كان حطّ فيها قبل أيام قليلة. الهدف: تحدي النقّاد الذين كانوا هاجموا فيلمه بأحطّ النعوت وعرّضوا مخرجه لخسائر جراء ضعف الإيرادات.  

اختار لولوش فتح أبواب السينما للجميع كي "يتأكدوا" بأنفسهم ويكوّنوا رأيهم الخاص، بعيداً من تأثير الصحافة فيهم. هذه العملية لم تنقذ الفيلم من الموت المحتم على الشاشات، ولكن سمحت لمبادرها بأن يسجّل موقفاً شجاعاً، على نفقته الخاصة.

شيء مشابه فعلته المخرجة اللبنانية رنا عيد مساء السبت الماضي في صالة "متروبوليس"، لكن الدوافع أخطر بمراحل من دوافع لولوش، اذ تنمّ عن حال انتهاك لحرية التعبير.

ماذا حصل تحديداً؟ فيلمها "بانوبتيك"، المشارك سابقاً في مهرجان لوكارنو، كان من المقرر عرضه ضمن "ملتقى بيروت السينمائي" (٢٣ - ٢٦ الجاري)، الا انه لم يحصل على إجازة. فالرقابة اللبنانية طلبت من عيد حذف جملة في الفيلم تقول فيها عبر التعليق الصوتي مأساة المحتجزين الأجانب (من الذين ارتكبوا مخالفات) في مركز الأمن العام تحت جسر التحويطة، حيث ينتظرون لأيام وأيام محاكماتهم. طُلب منها كذلك اقتطاع العديد من المشاهد حيث يظهر عناصر الأمن، بالرغم من انها سبق ان استحصلت على اذن تصوير، ولم تخرج عن النصّ الذي تقدمت به.

رفضت عيد هذا الإجراء جملةً وتفصيلاً، وكانت النتيحة عدم حصولها على تصريح، فاختارت ان تبثّ على الشاشة البيضاء في موعد العرض المقرر، بدلاً من الفيلم، رابطه على موقع "فيميو" مع كلمة المرور صالحة لثلاثة أيام (*). هذا يعني ان في إمكان أي شخص مشاهدة "بانوبتيك"، وهو ممدد على كرسيه عبر النقر على بضعة مفاتيح.

ليست هذه المبادرة تحدياً لقرار ظالم، بقدر ما تؤكد ان الوصاية على الفنّ باتت استحالة من وجهة نظر تقنية في زمننا الراهن. تبقى أهمية ان يُشاهَد الفيلم في حضنه الطبيعي، أي صالة السينما، وخصوصاً اننا أمام عمل يرتكز بالكامل على تجربة بصرية سمعية، ولكن هناك ثمن يجب ان يُسدَّد لقاء هذا القرار، كما قالت المخرجة في إتصال معها. في المقابل، بدلاً من نحو ٢٠٠ شخص كان من المتوقع ان يشاهدوا الفيلم في عرضه الأول السبت، سجّل الرابط على "فيميو" إلى الآن نحواً من ٣٠٠٠ مشاهدة.

"بانوبتيك" رسالة رنا عيد إلى والدها الراحل، العميد في الجيش اللبناني. ليست رسالة عتاب مؤجل أو حبّ متأخر، أو أي شيء بالمعنى التقليدي. أصلاً لا يوجد شيء تقليدي في الفيلم الذي يقترب بأسلوب سرده وأطروحته ومقاربته البصرية من مفردات السينما التجريبية. للمناسبة، نحن أمام حالة أخرى من سينما هامشية تنتمي إلى العالم السفلي للفنّ، وفق المعنيين المجازي والحرفي، تخرج من حيزها الضيق في رعاية الرقابة.

الأب شخصية محورية في الفيلم، في غيابه أكثر منه في حضوره، وفي هذا لا اختلاف عن عدد كبير من الوثائقيات اللبنانية التي تستخدم فرداً من العائلة مدخلاً للذكريات والبحث في الماضي. وبما ان الماضي بالنسبة لأجيال عديدة من اللبنانيين يعني الحرب، فلا مهرب من العودة إليها. لكن الحرب في "بانوبتيك" هي أكثر من الماضي، بل هي حاضر(نا)، كونها لا تزال مستمرة بأشكال وسرديات ومعانٍ مختلفة.

أبعد نقطة زمنياً تحملنا إليها عيد في شريط ذكرياتها، هي عندما كانت في السادسة، إبان الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام ١٩٨٢. تختلط الأزمنة والأحداث والعام والخاص في مخيلتها على نحو غير منظّم يشي بطبيعة علاقتها بالمكان والناس، ليصبح الفيلم برمته شبيهاً الذاكرة المشوشة، حيث لا منطق، بل شذرات من يوميات السلم الهشّ. "بعد الحرب، خرجنا من الملاجئ، لكننا لم نخرج من تحت الأرض، خلصت الحرب الأهلية بعفو عام وزادت الثكن والأجهزة الأمنية"، تقول عيد في مقاربة نقدية صريحة ولكن ضمنية لمَن يحكم البلاد منذ أكثر من ربع قرن، هؤلاء الذين يضمنون لنا بعض الأمان على حساب أشياء أخرى.

الفيلم حكاية مكان وزمان من وجهتي نظر: مَن في الأعلى ومَن في الأسفل. وهذا ينسحب على المستويات كافة. أصوات لـ"نفوس غير مطمئنة" تخرج من تحت الأرض، وأصوات تعلو فوقها (الخطب الرنانة في ساحة الشهداء لمناسبة التضامن مع الجيش ("لبنان أيها السادة، لوحة أبدعها الله"…). تصوّر عيد ما لا نراه عادةً، إما لكونه في مكان خارج نطاق النظر، وإما لأننا اعتدنا التحديق فيه كثيراً، غالباً في عتمة الليل، حيث تتحرر المشاعر المكبوتة. نتابع جسوراً وطرقاً، أماكن مهملة رطبة لا يدخلها الضوء، ودائماً الماضي "حيٌّ تحت الجلد"، يحاول الصعود إلى السطح، تماماً كالعمّال الأجانب المكدّسين في جبّ الأرض، هناك حيث الوقت له ايقاعه الخاص. جبّ الأرض الذي غادره اللبنانيون بعد الحرب، لكن الذي وُضع فيه غيرهم.

الإنسان والعمران، إشكالية أخرى ينكبّ عليها الفيلم، فيما المعالجة البصرية المغايرة تضعنا في كابوس، ليس أي كابوس، كابوس نعيشه نهاراً وبعيون مفتوحة. ثم ان لقطات الحياة اليومية المعاصرة، لها قدرة كبيرة على ردّنا إلى الماضي. وإذا كانت الأبوّة مدخلاً إلى الماضي، فالشريط الصوتي الحافل يتلقف هذا الماضي، وهو في كلّ حال يروي حكاية أخرى موازية، تنفصل عن الحكاية الأساسية أحياناً لتعود وتتقارب منها في أحايين أخرى.

في مونولوغها الداخلي، تشتغل رنا عيد على التفاصيل والدلالات، وقد لا تكون كلّها واضحة وبديهية، لكنها تخاطب شيئاً فينا. تنهل من المتوفر في البيئة التي تلتقط فيها المَشاهد، بلا إضافات من خارج تلك البيئة. تدفع بالأصوات والذبذبات والعناصر الضاغطة إلى الحدّ الأقصى، كي يصبح الفيلم تجربة حسيّة. هذا هو هاجسها والباب الذي تطرقه للدخول إلى المدينة. نراها تخاطب رجلاً من دون ان تتوقع أي جواب، لذا هو فيلم الأمل الذي يولد من فقدانه تدريجاً مع كلّ صورة تأتي الينا. دخولنا في متاهات المراكز المهجورة من برج المرّ إلى "البوريفاج"، الشاهدين على زمني الحربّ والإحتلال، أشبه بعبور في ممرات الذاكرة المكلومة المفككة. ولو كان للجدران لغة لتكلّمت وكشفت التاريخ الصامت لبلاد امتهنت النكران؛ بلاد عاشتحرباً لم يرتكبها أحد.



(*) https://vimeo.com/261622048  

كلمة المرور: Panop17










حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم