الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

"أبونا" جورج مسّوح... المقال وصل

المصدر: "النهار"
ديانا سكيني
ديانا سكيني
"أبونا" جورج مسّوح... المقال وصل
"أبونا" جورج مسّوح... المقال وصل
A+ A-

لأشهر طويلة، اعتدتُ رسالة تصلّني من الأب جورج مسّوح كل يوم جمعة.
كان "أبونا" يريد الاطمئنان الى وصول مقاله الذي سينشر صباح السبت على موقع "النهار" الالكتروني. لقد صاغ الكاتب المتفاعل مع مواقع التواصل الاجتماعي علاقة خاصة مع الصحافة الرقمية وآمن بفعالية مماثلة يمكن أن تؤديها تماماً كالصحف الورقية. دليلُه الى ذلك، مئات المشاركات لمقاله في كل أسبوع. الا أنه بقيَ حريصاً على موعد نشر المقال صباحاً، "أنا معوّد كل نهار سبت الساعة ستة الصبح حطّ المقال عندي على الصفحة". التعوّد على رائحة الحبر صباحاً في الدم...
بدا مدركاً أهمية نشر المقالات الجريئة في القضايا الجدليّة والحساسة على مواقع التواصل، أي في المكان نفسه الذي تتفاعل فيه الآراء، ويبثُ أيضاً الكثير من الهرطقات. كان صوته صارخاً ضد الشذوذ الفكري. وهو اجتهد كثيراً في صوغ تيار فكري يتصدّى للشعبوية، مستخدماً النصّ الديني في غالب الأحيان لمقارعة خصومه الفكريين.
تجده في صلب العلمنة وناشطي المجتمع المدني من دون أن يخلع الثوب الكنسي.
بين أصدقائه ومريدّيه الكثير من الشباب الباحثين عن اعلاء شأن الكلمة الحرة. يُذكّر مسار خادم رعية مار جاورجيوس في عاليه كثيرين برحلة الأب غريغوار حداد الذي نشط لتكريس مفهوم المواطنة وفصل الدين عن الدولة.
عمل مسوح طويلاً على خط الحوار الاسلامي-المسيحي، وكتب في الوقت نفسه ضد المغالين في الديانتين من دون تحفظ.

الاسلام والاجتهاد
في رسالته الصوتية المرافقة لمقاله الأخير المرسل الى "النهار" في آخر سبت من شهر كانون الثاني الفائت، بدا الصوت متعباً متهدجاً والأنفاس متقطعة. في الشهر عينه، اضطر للغياب عن الكتابة لأسبوع بسبب الظروف الصحية.
 المقال المذكور بدا أشبه بوصية، وفيه عبّر عن اقتناعه بأن قيمة المسيحيين ليست بأعدادهم، مكرسّاً حيّزاً من جهده الفكري لمقارعة خطاب التخويف الذي أطرّ قضية الأقليات. فكتب: "لم يمالئ المسيحيّون الأباطرة والولاة والحكّام. لم يهادنوا نيرون أو ماركوس أوريليوس أو ديوكليسيانوس، ولم يتعاونوا معهم، ولم يخضعوا لسلطانهم...".
 غير أن الأمر لم يمنع الأب مسوح من وضع الاصبع على الجرح مراراً، فطالبَ المرجعيات الاسلامية بمراجعة النصوص التي تفتح ثغرة لثقافة "أهل الذمة"، وصوّب مراراً على عدم تكفير "داعش" من قبل هذه المرجعيات رغم ما ألحقته من أذى بالتراث الاسلامي.
في الدردشات المشتركة، أفصح أن مواجهة الأمور العملية في قضية "داعش" أهم من تلك التنظيرية، كما أنه لا يمكن الحديث عن اجتهاد تأتي به مؤسسة مهترئة. وفي رأيه، ان الأحرار وحدهم من يجتهدون. ذلك ان "معظم رجال الدين في العالم العربي ليس لهم سوى تمجيد كراماته (الحاكم) والعمل على إصدار فتاوى يطلبها منهم، فيذهبون إلى انتقاء بعض الآيات والأحاديث وربطها بعضها ببعض، ويصدرونها وإنْ خالفت بعض قناعاتهم".



الشعبوية في الكنيسة
في الواقع، كان الأب مسوح يعرف ثمن تصدّيه للتيارات السائدة، لكنه لم يأبه. وهو إن رصد تكاثر ظاهرة انتشار الشعبوية في أوساط كنسية، لم يتوانَ عن تسمية الأشياء بأسمائها، فكتب "بعد أن أفسدت الشعبويّة السياسيّين والجماهير المنقادة إليهم، دخلت الشعبويّة الحقل الكنسيّ وبدأت بإفساده. والمقصود بالشعبويّة هو استغلال الغرائز والمشاعر الطبيعيّة اللاعقلانيّة لكسب الشعبيّة والمجد الشخصيّ".
وكان من رجال الدين القلة الذين يجدون أنفسهم معنيين بمعارك الحريات والحقوق الانسانية المثارة يومياً، فاذا منعت الرقابة فيلماً بناء على توصية دينية، انبرى للمواجهة من موقعه بالكتابة ان "ثمة تضادّاً عظيماً بين نظرة يسوع إلى السلطة الدينيّة من جهة، والسلطة التي يمارسها باسم كنيسته مَن ينصّبون أنفسهم أوصياء على الناس وعقولهم وضمائرهم من جهة أخرى. وبقدر ما كان يسوع عفيفًا عن ممارسة السلطة فلم يسعَ إلى فرض تعاليمه على الناس، بالقدر ذاته نرى بعضًا من رجال الدين ممّن يستولي على حقّ إلهيّ يفرض فيه رأيه كما لو أنّه رأي إلهيّ منزّل من فوق... وفي هذا الأمر منتهى الإشراك بالله تعالى".

العنف ضد النساء
أما اذا أثيرت قضية العنف ضد النساء، فيجد نفسه في صلب المعركة، كيف لا و"المرأة اللبنانيّة تظلمها المحاكم الشرعيّة والروحيّة. هذا، للأسف، بات من البديهيّات المؤلمة التي تتناقض وما يقوله أهل الأديان عن أديانهم من أنّها جُعلت رحمة للناس ورأفة من لدن الله تعالى. أمّا أن تُظلم المرأة وتُنكر حقوقها في قوانين بلادها فهذا ينمّ عن أزمة أخلاقيّة كبرى، تؤدّي فيها الطوائف دورًا أساسيًّا للحطّ من دورها ومكانتها في التنشئة. لذلك نرى أنّ الدولة والطوائف تتواطأ في هدر حقوق المرأة".
وليس من الصعب أن تعثر على عشرات المقالات التي كتبها الأب مسّوح عن سوريا والتي يعبّر فيها من دون مواربة عن موقفه الانساني والسياسي ضد الاستبداد والتكفيريين في آن. الانحياز للانسان والحرية والعدالة هو جوهر ما يصبو اليه.
الاشتياق الى جرأة رجل الدين وقلمه الحار المشكك النقدي، أمرٌ واقعٌ. لنا في ما كتبه الأب جورج مسّوح زخرٌ وارثٌ وتعويضٌ عن فناء الجسد.
للراحل تلاميذ كثرٌ ومنابر أمينة على نهج الجرأة في اعلاء صوت النقد والتصويب، للأقلام الحرّة الوريثة سنقول "وصل المقال أبونا"...


[email protected]
@dianaskaini

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم