Tuesday - 23 April 2024

Advertisement

كتاب - "شتائم طويلة" لمحمد سليمان: شذرات الخراب والخواء

فوزي يمّين
A+ A-

عاريةٌ لغة محمّد سليمان في باكورته الشعريّة "شتائم طويلة" ذات الحجم الصغير والشذرات القصيرة (إصدار "اللقاء الثقافي" زغرتا- الزاوية)، مثلها مثل الشاعر الذي، منذ الشذرة الأولى، يعمل على اصطياد اللحظة الخَرِبة وهو "يتمشّى في أرجاء المنزل عارياً" (ص10)، راسماً بما يشبه المينيماليّة مشاهدات من عزلته، في حدّها الأدنى، عالقة في زاوية عينه وروحه.


لا تتوانى هذه اللغة، بجماليّة تركيباتها المتنوّعة وصورها المدهشة، عن رصد الزمن الميت بتفاصيله المملّة، متقدّمةً بطريقة حثيثة ومتأنّية نحو "لهاث اللحظة واحتضارها"، كما يقتبس الشاعر عن إميل سيوران في مقدّمة مجموعته، حيث الانتقال ليس من لحظة إلى أخرى بل الغوص العميق والتمرّغ الكامل فيها حدّ الاختناق.
من هذا المنطلق، يفتح الشاعر صفحاته لتدفّق تلك اللحظات التي قد تبدو عامّة بسرديّتها اليوميّة، غير أنّها تصير، بفعل حميميّتها المفرطة، لحظات داخليّة نفسيّة لا تنتمي إلاّ إلى عالم الشاعر الجوّاني فحسب. وحين يخال قارئها تحسّسها والإحاطة بها، يكتشف تدريجاً أنّ من الصعب القبض عليها، لشدّة خصوصيّتها وفرادتها.
تتشكّل صلة متينة بين الشاعر ولحظاته الشعريّة، فمن جهة هو "لا ينتظر شيئاً" منها، ومن جهة أخرى "لا شيء ينتظره" (ص11). في هذا العالم من الخلوّ والتجرّد، تستوي المسافة الفاصلة بين الشاعر وعناصره، وشيئاً فشيئاً، تتّضح الزاوية التي يختار النظر عبرها، أو الواجهة كما يسمّيها، "واجهة سوداء"، والقماشة التي يختار التطريز منها، "قماشة سوداء"، كأنّه بذلك يقلب عينيه إلى الداخل ليبصر الجانب المعتم منها. في هوّة تلك العتمة المغرية ينشد "الانزلاق" و"السقوط" و"لا يرى شيئاً".
هذه العتمة التي يحاكيها محمّد سليمان، باستمتاع مدهش، ليست إلاّ عتمة الذات، وليس سقوطه فيها إلاّ سقوطاً في فراغ النفس ووحشتها، والأهمّ أنّه يفعل ذلك كلّه "بنظرة باردة" و"لامبالاة قاتلة" (ص13).
من التبصّر في العتمة يرث الشاعر الوحدة، ليسائل نفسه: "علامَ تمدّ ذراعيك لتمسك الضوء؟ كالماء ينسلّ من بين أصابعك" (ص75)، ويعي حالته المتعبة حيث "تهترئ قدماه" و"تتورّم جذوره"، فيستسلم للنوم "نَمْ"، ويُصاب بالخرس "ضَعْ في فمك حجراً" (ص76)، ولا يعود يحلم بشيء "لا يحلم بكسرة خبز، لا يحلم أصلاً" (ص77).
عالم الشاعر داخليّ إذاً: المكان داخليّ (الغرفة، حوض الاستحمام، السرير، المرآة، الخزانة، الجدار، البلاطات)، والزمان داخليّ (يذهب الوقت ولا يعود، كأنّما لا يتغيّر شيء)، والألوان داخليّة (واجهة سوداء، قماشة سوداء، الليل أسود، النزع أسود)، والأصوات داخليّة (حشرجة، بكاء)، حتّى أنّ اللحظات التي يعاينها من داخله، خاوية ولا تصلح لشيء: "الوقت عنبٌ مجفَّف لا يؤكل، يطرطق كالشعير تحت أضراس النمل" (ص52).
وحيث ينزل الشاعر سلالمه الخفيّة في العتمة والوحدة، يغور انزلاقه عميقاً في ما يشبه الصورة الحيوانيّة التي تترافق مع باقي الصور المحيطة، بما يوحي بانحدار إنسانيّ وبناء عالم سفليّ ساقط، تتداعى أحجاره وتمتثل عناصره جامدة في إطاراتها الباهتة: "سلحفاة تسقط من الشجرة، غربان تنعق، طابور نمل مسحوق، سحليّة تعمل برونزاج على حائط، قرد نتساوى معه يقذفنا إلى الوجود، نحلة تطرق رأسها في نافذة، ذبابة متصلّبة، جلد حرباء يبرقع".
صحيح أنّ الشاعر يستعين أحياناً بالحبّ، فينادي عشيقته لتأتيه وتنضمّ إلى عالمه الداخليّ الخرب، وتنغلق معه في وحشته، منسلخة عن العالم والناس، "على خصركِ الوقور لفّي الطريق" (ص80)، غير أنّ ذلك لا يجدي نفعاً إذ يطلب منها، بأسلوب الآمر الناهي، أن لا تعبث بعالمه بغية تغييره أو التأثير عليه: "حين تدخلين هذا الخراب لا تطيلي اللعب بجروح الغبار" (ص37)، بل أن تأخذ بانضمامها إليه، في قصيدة "خواء" (ص38)، "الليل من شعري"، و"دفء الشمس فوق الورق"، و"عافية المياه في جداولها"، و"فراغ الدروب"، و"وحشة المقاعد"، و"الحنان الممزوج بالصلوات". وهو، في ذلك، لا ينشد الحبّ كسبيل خلاص- إذ لا يشكّل الحبّ خلاصاً لديه- بل كشاهد على هذا العالم الداخليّ، يرافقه ليتّسع ويداخله ليسمن ويزيد: "وكلّ هذا ليحيا خواؤه".
لا ينفكّ الشاعر، حتى آخر شذرة، يغنّي الخواء والخراب، خراب الروح الهائمة في جسده المستوحش والمنفصل، والذي ينفصل عن قصد كأنّما ليتغلغل في داخله أكثر، فربّما يتطهّر في تجرّده، وربّما يصفو في حياديّته. هكذا يجد الشاعر لذّة في خرابه واستمتاعاً في غيابه، إذ يخلو لنفسه دافئاً وهانئاً، قابعاً وقانعاً قي حياة لا حياة فيها، حيث "لا شمس ولا مياه". وفي خضمّ بوحه، يبدو أنّه "لا يقول شيئاً"، حتّى أنّه لا يفتح باباً ولا نافذة، وأصلاً لا يعترف بالطريق ويعتبرها غير شرعيّة: "الطريق مُراهِقة شاهدَتْها أمُّها تأتي إثماً" (ص84).
أخيراً، ما هذا الخراب والخواء؟ ربّما يكون خراب الشاعر الخاصّ نتيجة لتداعي الخراب العامّ حوله، وتالياً يصبح في انغلاقه على نفسه توقا خفيّا إلى الخروج. وربّما لا يكمن سبب خوائه الإنسانيّ في علاقته بعالمه الداخليّ بقدر ما يعود إلى الوعي الذي يكتسبه الوجود من انوجاده في العالم. ثمّ، ربّما تكون المعاناة التي يتكبّدها وجوده البشريّ تعود إلى أنّ غزو الوعي يحوّله، ويحوّلنا معه، إلى حالة من الإقتلاع والإبعاد المنذور وعذاب المنفى والغياب.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم