السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

أبو أشرف آخر الأوراق الرومنطيقية الثورية

طلال الخواجة
أبو أشرف آخر الأوراق الرومنطيقية الثورية
أبو أشرف آخر الأوراق الرومنطيقية الثورية
A+ A-

(إلى روح صديقي عبد الفتاح سوق) 


كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة ليلا، وكنا متحلقين حول النار في قاعة الرياضة في ثانوية حسن الحجة الرسمية للصبيان في شارع المئتين بجانب الملعب البلدي في طرابلس. كنا قد احتللنا الثانوية قبل يومين استنكارا لتدمير العدو الإسرائيلي اسطول الميدل ايست في مطار بيروت الدولي، وللعجز اللبناني الرسمي سنة 1969. لم نكن وحدنا، بل معظم طلاب لبنان شاركوا في الانتفاضة واعتصموا في الثانويات وبعضهم احتل التكميليات. طرابلس كانت دائما في الطليعة. حتى ان ثانوية البنات في شارع لطيفة احتلتها صبايا العائلات الطربلسية المعروفة: شهال، يمق، عبد الواحد، غازي، خربطلي، مراد وغيرها، على رغم مضايقات الأجهزة وأعوانها.



كنا ننشد الاغاني على انواعها قبل الذهاب إلى النوم. البعض يذهب الى بيته للعودة صباحا، وانا في غرفة المدير قافزا من شباك الكوريدور، اذ كنت العب دور البطل الاول في بداية الاعتصام، وكنت انذاك في صف البكالوريا قسم اول. فجأة خيم الصمت وانفضّ الجمع من حولي ملتفتا نحو باب القاعة الكبير، وقال بعض العارفين، الاكبر سنا وتجربة والتزاما: جاء عبد الفتاح، جاء أبو أشرف.

بالفعل اطل شاب في العشرين من عمره، بهي الطلعة، ممشوق القامة ذو شعر طويل، كمعظم ثوريي تلك الفترة التي طبعتها احداث لبنانية وعربية وعالمية هائلة. فقد هزمت إسرائيل انظمة العسكريتاريا في حرب ٦٧، وتهاوت الناصرية مع امالها الوطنية واحلامها القومية في شباك مخابراتها وزوار الفجر وشبّيحة شارع الهرم الذين فضّلوا مواكبة برلنتي عبد الحميد واعتماد خورشيد بدل مواكبة مصر وحدودها، وهُزم المرشحون الشهابيون على يد الحلف الثلاثي بعد اهتزاز الناصرية، وفي فرنسا قاد الطلاب اليساريون حركة التغيير الشاملة التي كادت ان تطيح ديغول ايقونة فرنسا، الذي سرعان ما استقال لاحقا تحت وطأتها، وكان غيفارا ايقونة اميركا اللاتينية قد ترك الرفاهية الثورية في كوبا ليلتحق بالثورة البوليفية وليُقتل لاحقا على يد CIA ويصدح له الشيخ امام "غيفارا مات آخر خبر في الراديوهات".

التف الجمع حول الشاب اليساري الذي كان طالبا مجلّيا في الثانوية نفسها قبل ان يُطرد بسبب مشاكسته لبعض الاساتذة "اليمينيين"، وهي خاصية كثير من اليساريين انذاك، كرفيق عبد الفتاح لاحقا، الراحل نصير الاسعد الذي طُرد من اليسوعية.

عبد الفتاح صاحب الكاريزما العالية، التي ظهرت بعد تجمعنا حول النار من جديد، بدأ يشرح الواقع السياسي اللبناني والعربي، مشددا على الرافعة الثورية الفلسطينية التي ستشكل نقطة جذب عربية وعالمية تدغدغ مشاعر الشعوب المقهورة من الهزيمة والقمع والتخلف وتدغدغ احلام مناضلي العالم اجمع. لذا بدا طبيعيا ان يتحول هذا الفتى اليساري من حركة القوميين العرب الناصرية الهوى، الى فصائل اليسار المتمركسة، ومن ثم الى منظمة الاشتراكيين اللبنانيين التي ستندمج بعد سنتين مع لبنان الاشتراكي لتطلق منظمة العمل الشيوعي في لبنان كطليعة ممثلي اليسار الجديد، التي ستعلن انها، على رغم ماركسيتها، لن تحمل المظلة الا حين تمطر في لبنان والمنطقة العربية، وان روافدها الفكرية تأتي من اماكن شتى، لكنها تصب في المجرى اللبناني الفلسطيني والعربي. علّمت المنظمة الوليدة كوادرها بعض مآثر ماو تسي تونغ، متجاهلة مآسي الثورة الثقافية الماوية التي تضاهي في بعض جوانبها كوارث الستالينية واللينينية.

آمنت المنظمة بالرافعة الفلسطينية، لكنها قاومت تجاوزاتها، وحمّلتها في مراجعاتها الفكرية والسياسية اللاحقة جزءا من مسؤولية الحرب الأهلية، حيث ان اعمالها فاضت على قدرة لبنان على التحمل واصطدمت بالبنية السياسية اللبنانية وتناقضاتها.

رافقت الاحلام الثورية هذا القائد اليساري منذ يفاعه، الذي يرمز إلى مرحلة الرومنطيقية الثورية التي مجدت العنف الثوري كوسيلة مشروعة. لكن ابن الاسواق الطرابلسية القديمة هذا، كان ودودا ولطيفا ورقيقا، رقة العصافير التي اقتناها والده في محل صغير بعد تقاعده. كانت شهادة اي رفيق تفطر قلبه، سواء في الحرب الاهلية، أو في المقاومة بعد اجتياح اسرائيل في 1982، حيث اعلنت المنظمة منفردة انه لا بندقية مشروعة سوى ضد الاحتلال، ما اغاظ السوريين منها، الذين أداروا حروبا أهلية فلسطينية ولبنانية عبر واجهات وطنية لبنلنية وفصائلية فلسطينية. المنظمة التي كرهت مرحلة التوحيد القاهرة لطرابلس، مارست بقيادة عبد الفتاح دورا فاضحا لرغبة النظام السوري في الهيمنة على المدينة، وفي رعاية لاحقة للتوحيد مع ايران بعد ضرب المدينة بالتعاون مع "الأحزاب الوطنية" التي شكلت ستارا للقوات السورية التي سيطرت على المدينة ومارست عليها شتى انواع القهر. من ينسى مجزرة التبانة التي ساهمت في تعميق الانقسامات الفئوية في المدينة وحولت مناطق التبانة وبعل محسن قنابل موقوتة انفجرت لاحقا في جولات، كما في اعقاب احتلال "حزب الله" لبيروت في 7 أيار الأسود.

لم يكن عبد الفتاح يهوى التنظير وكتابة المقالات، لكنه كان مثقفا ومتمكناً سياسيا. وكما يقول المثل الشعبي "بيلقطها وهي طايرة". كان قائدا ميدانيا للتظاهرات والاعتصامات وغيرها من اشكال العمل الشعبي والديموقراطي، حتى انه ثابر على الهتاف، على رغم وفرة الهتيفة، وكان جريئا، فهتف ضد مشروع روجرز الذي قبله عبد الناصر قبل وفاته في قلب ساحة عبد الناصر، منتقدا الزعيم الأسمر الذي تعشقه المدينة وتعشق مصر والعروبة والقاهرة إلى درجة أن أهلها لطالما تصرفوا كأن المدينة حي من احياء القاهرة.

لم يكن عبد الفتاح محبا للعمل العسكري خلال الحرب الاهلية، وشكّل مع توفيق سلطان والشهيد ابو حسن المير ثلاثيا في دعم استقلالية التجمع الوطني للعمل الاجتماعي الذي نشأ في الحرب الأهلية بعد تراجع مؤسسات الدولة وتفككها، كما في مواجهة شطط القوى السياسية الاخرى بمنوعاتها، وايضا في مواجهة التجاوزات الفلسطينة، وخصوصا تجاوزات الفصائل المرتبطة بسوريا. تجلت صلابته في مواجهة النظام السوري واعوانه، علما ان هذا الثلاثي شكل انعكاسا شماليا للثلاثي الوطني، كمال جنبلاط ومحسن ابرهيم وجورج حاوي.

وقد اتت مراجعات المنظمة لاحقا لتثبت عدم صوابية استسهال ركوب موجة الحرب الاهلية في سبيل برنامج التغيير الديموقراطي.

زرع عبد الفتاح اسواق طرابلس تظاهرات ثابتة وطيارة، وحوّل مقاهيها وزواياها وبعض بيوتها مراكز للنقاش والحوار والتخطيط، كما احب الميناء منذ يفاعه وانتسابه إلى حركة القوميين العرب، وصادق نخبها ونخب قاطنيها (حتى انه اصبح منهم لاحقا فسكن فيها بعد العودة من تهجير حركة التوحيد)، كرشيد درباس وعصام حداد ومصطفى صيداوي وعبدالله فلاح ونديم زيلع وسمير ابو نعيم ووليد سماحة وآخرين. احب صياديها وسرح معهم وكرّس لاحقا طاقة المنظمة شمالا للدفاع عن مصالحهم، لذا بدا طبيعيا ان يتبوأ رفاقه وفي مقدمهم سالم دقناش قيادة نقابة الصيادين لفترات طويلة، تخللتها حراكات متنوعة، من المعركة ضد شركة بروتيين في ١٩٧٥ الى معركة تحديث مرفأ الصيادين وانشاء مسمكة النقابة والحفاظ على البيئة والثروة السمكية المتضائلة نتيجة التعديات بالديناميت، وخصوصا على أيدي المحميين من المخابرات السورية آنذاك.

ادت الاختلافات بين محسن ابرهيم وبعض اعضاء المكتب السياسي للمنظمة ومنهم عبد الفتاح في التسعينات الى اعتكاف معظم فرع الشمال وقيادة المنطقة وانفكاكه، حيث رأى ابو اشرف أنّ الامين العام يضمر انتظارية طويلة نتيجة الاصطدام مع النظام الامني السوري اللبناني وفرادة موقف المنظمة، وهي انتظارية لم يفك طلاسمها خطاب محسن ابرهيم في اربعين جورج حاوي بعد استشهاد الحريري وانتفاضة ١٤ آذار المفصلية في تاريخ البلد وخروج القوات السورية، ولا بيانات متقطعة ومساهمات معينة في بعض الاحداث والحراكات. ذلك أن حجم المراجعات الفكرية والسياسية والتنظيمية، التي اطلقها الامين العام نفسه، كان يجب ان يؤدي الى ولادة تنظيم جديد من رحم القديم، وقد استشعر ابو اشرف عجز قيادة المنظمة برئاسة ابي خالد على استكمال قفزتها الاخيرة التي بدت الاكثر صعوبة، وخصوصا ان ازمة العمل الديموقراطي واليساري كانت من طبيعة عالمية نتيجة التحولات الرأسمالية ونشوء العولمة والتكنولوجيا الرقمية وصعود النيو الليبيرالية، بالترافق مع تفكك انظمة رأسمالية الدولة والمنظومة السوفياتية وانتعاش الإسلام السياسي مع نشوء الجهمورية الإسلامية الإيرانية.

كان ابو اشرف صلبا وعتيقا ومتجذرا، الا انه كان منفتحا على التغيير والتحديث والتكيف، "ورمى بأولاده الثلاثة في اتون انتفاضة ١٤ آذار"، كما رأى في سيطرة ايران و"حزب الله" خطرا على الكيان والمنطقة، ومع حماسته المرتفعة لمنتفضي الربيع العربي ، استشعر مبكرا محاولات الردة والاحتواء والقمع منذ البداية، وخصوصا من النظام السوري الارهابي وداعميه، لذا كان يدعو للتمتع بالنفس الطويل وعدم اليأس حتى في سنوات مرضه الأخيرة.

لم يكن عبد الفتاح فريدا في نضاله الطويل، فهو ابن المرحلة الثورية الرومنطيقية التي فاضت بالمناضلين والثوار وعشاق التغيير، قادة وكوادر، الذين طبعوا مرحلة بكاملها. بقي قويا ومتواضعا ونظيفا ولم تكسره الرياح العاتية، وهو يغادرنا في زمن صعب نحتاج فيه الى حكمة أمثاله ومشورتهم وفطنتهم وصبرهم.

وإذ خسره أهله وأصدقاؤه ورفاقه القدامى، وبالطبع مدينته وبلده، فإني أفقد في رحيله صديقا ورفيق درب لمدة نصف قرن. عزاؤنا بمشاركة مئات الرفاق والأصدقاء الذين أتوا من كل مكان في الشمال ولبنان لوداع الرفيق الودود والقائد الصلب.


عزاؤنا أيضا مع تساقط الاوراق الرومنطيقية، من عبد الفتاح إلى سمير ونصير وصادر ومصباح وغيرهم الكثير، أنّ سيرهم الشخصية والسياسية ومآثرهم ستبقى في ذاكرة الأجيال المقبلة وستضيء جزءا من الطريق المظلم الطويل الذي ستسلكه هذه الأجيال من أجل البلد المهدد في كيانه وتنوعه وعروبته، ومن أجل العبور إلى دولة المواطنة والديموقراطية والسيادة المطلقة.



حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم