الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

المواطن الذي خانه وطنه ومواطنوه

المصدر: "النهار"
غسان صليبي
المواطن الذي خانه وطنه ومواطنوه
المواطن الذي خانه وطنه ومواطنوه
A+ A-

في لحظات، تحول الممثل المسرحي زياد عيتاني، من متهم بالخيانة الوطنية والعمالة لاسرائيل، الى شاهد باللحم الحي على الانحطاط الوطني، الأمني والسياسي والقضائي والإعلامي والشعبي. 

بحسب تصريح وزير الداخلية، يبدو ان زياد عيتاني هو الذي تعرض فعلا إلى خيانة وطنية، من خلال انتهاك المؤسسات "الوطنية"، الأمنية والسياسية والقضائية والاعلامية، لحقوقه كمواطن.

 فبعد التسريب حول "عمالته" الذي أعقب اعتقاله والتحقيق معه مباشرة، وبعد التواطؤ الإعلامي والتبني الشعبي العلني والضمني لهذا التسريب قبل صدور الحكم القضائي، أظهرت التحقيقات الجديدة، أن جهات أمنية فبركت تهمة العمالة.

حتى قبل اتضاح الصورة بشكل كامل، يستحق زياد عيتاني الاعتذار، وإن كان الاعتذار لا يكفي. بل يجب ان يُستكمل بالمحاسبة القضائية، في حال ثبوت صحة التحقيقات الأخيرة.

اعتذار اولا من وزيري الداخلية والعدل، لمسؤوليتهما الدستورية، الأمنية والقضائية.

اعتذار من الذين شمتوا وادانوا وروجوا، قبل صدور الحكم.

اعتذار من السياسيين والأحزاب والنقابات و"المجتمع المدني"، الذين التزموا الصمت، على رغم جميع الشكوك التي كانت تحيط بالقضية، بدءا بالتسريبات الاعلامية، وصولا إلى التهم غير الواقعية، من مشاريع اغتيالات وتطبيع.

اعتذار مني شخصيا، مع انني لم اتبنَّ الاتهام وما لجأت الى الشماتة، الا انني التزمت الصمت ايضا، وعلى غير عادتي، امام مؤشرات انتهاك الحقوق الانسانية لمواطن مثلي.

إذ يبدو ان تهمة العمالة لاسرائيل الموجهة إلى احدهم، تعطل عند معظمنا الاعتبارات الانسانية، وتسوّغ لبعضنا، دوس حقوق الانسان. تماما كما كان الصراع مع اسرائيل، ولا يزال، يسوّغ للانظمة العربية المستبدة البطش بشعوبها. ولعل نظامنا، وبعض شعبنا معه، قد تطبّع مع نظام الاشقاء في إطار تجربة "وحدة المسار والمصير"، السيئة الذكر.

هناك عامل آخر، قد يكون ساهم ايضا في تواطؤ الرأي العام والاعلام، فضلا عن القوى السياسية والمدنية.

فقد أشارت التسريبات بعد اعتقال عيتاني، إلى أن تورطه بالعمالة لاسرائيل جاء نتيجة علاقة عاطفية مع امرأة اسرائيلية استدرجته وجنّدته للعمل لصالحها.

اللافت ان الرأي العام اللبناني بدا كأنه لم يأبه كثيرا لـ"الخيانة الزوجية" المزعومة، الا من قبيل الشماتة والنكات الجنسية. بل جرى التركيز على الخيانة الوطنية، مع ان الاولى، بحسب التسريبات، هي التي فتحت الباب امام الثانية.

إن هذه الرواية لو صحت، كانت لتعجب فرويد واتباعه، الذين كانوا سيبرهنون كيف ان "الليبيدو" او الطاقة الجنسية، يمكنها ان تخرق في الآن نفسه، المحرّمات الزوجية والوطنية. ولا سيما ان الكثير من الخيانات الوطنية تتم عبر المسالك العاطفية - الجنسية.

ربما يكون ذلك، لان الجامع بين الخيانتين، هو انك في الحالتين، تهجر موقتا او الى الابد، مكانا لم تعد تريده او هو لم يعد يريدك.

لقد جرت اذاً عندنا، ادانة الخيانة الوطنية، في حين جرى "التسامح" مع الخيانة الزوجية لدى الراي العام، على رغم ان في عقد الزواج شيئاً من الارادة وشيئاً من الالتزام، في حين ان عقد الوطن لم يعد فيه لا إرادة ولا التزام، وقد جرى فسخه منذ زمن، ولو من دون اعلان.

هذا لا يمنع، ان يكون عامل "الخيانة الزوجية"، قد ضاعف على الارجح التواطؤ الإعلامي والشعبي ضد زياد عيتاني، في ظل ثقافتنا المحافظة والمواربة، في ما يتعلق بهذه الأمور.

لعل الذي فبرك التهمة، أراد شحنها بهذه الخلفية الجنسية-العاطفية، لقدرتها على تعطيل التفكير النقدي في مجتمعات الكبت الجنسي والبؤس العاطفي.

يبقى ان السؤال الوطني الاهم، بعد قضية زياد عيتاني، هو الآتي:

هل لا يزال يصح، في ظل هذا الانحطاط الوطني، الكلام عن الخيانة الوطنية؟

اصلا وفي الاساس، هل بقي من معنى للخيانة الوطنية، في وطن لم يعد وطنا، بعدما سقطت أركان الوطن الثلاثة، الدولة والشعب والحدود؟

فالدولة فاشلة ومستتبعة للخارج، أمنيا وسياسيا واقتصاديا، والشعب منقسم على نفسه، والحدود مشرّعة في الاتجاهين.

أحب أن أعرف، لو سمحتم، عن اي خيانة بتنا نتكلم، في بلد يعتبر فيه كل فريق، ان الفريق الآخر هو خائن؟

أليس ما بات يجمعنا في هذا البلد، هو اننا جميعنا مصنّفون "خونة"، بعضنا من بعضنا الآخر، أو مشروع "خونة"، اذا صحت فضيحة فبركة تهمة العمالة في حق زياد عيتاني؟

اخرجْ من سجنك أيها المواطن زياد عيتاني، واذهبْ مباشرة إلى مسرحك، واخترعْ حكاية عن مواطن خانه وطنه ومواطنوه.

اكتب السيناريو انت، وتولى ايضا مسؤولية الإخراج.

واجعل صديقك الكاتب والمخرج المسرحي يحيى جابر، ممثلا لا مخرجا هذه المرة، لا بل بطل مسرحيتك.

ليس عقابا له، لانه قد أعمي على قلبه وتعطل عقله بمجرد اتهامك بالعمالة لاسرائيل. بل من اجل ان تجعله يلعب دور المواطن المتهم زورا بالعمالة، وكطريقة علاجية سيكو-درامية له كصديق، ولنا جميعا من خلاله، كشامتين او كصامتين.




حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم