الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

عِفتُ السمكَ الذي التهَمَ أهلي

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
عِفتُ السمكَ الذي التهَمَ أهلي
عِفتُ السمكَ الذي التهَمَ أهلي
A+ A-

كنتُ مُستلقيًا على الأريكة، أشاهد شريط "تايتنيك" للمرة السابعة. توقفت عند مَشهد الصحون البيضاء التي تتهاوى من رفوفها، في حركة ساحرة. "زجاجٌ لا يُعاد له سَبْك". شَدَّني تدافع العشرات من الأثرياء بعد انهيار الطبقة العلوية. في برود، فانزلقوا إلى الأعماق الحالكة. أخذني مشهدُ عازف الكمان، حين استمر وحيدًا يُداعب أوتارَهُ، هائمًا كأنه في أوبرا.  

نزلتُ بعدها إلى مطعم الفندق لأتناول وجبة العشاء. كنتُ شاردًا، تراودني ذكرياتٌ، لا أكاد أمسك لها خيْطا. ومن أقصى القاعة المخملية، انبعثت ألحان عازفٍ ترقص أنامله على لوحة البيانو، في سحرٍ. كانت الوجبة طبقًا من السمك المشوي. عِفتُ هذا السمك الذي قُدِّمَ إليَّ في صحنٍ فاخرٍ، يشبه واحدًا من تلك التي سقطت من رفوف السفينة الأسطورية. حدَّقت فيَّ السمكاتُ ساخرةً، ورقصت أمامي ممتلئةً جذلى، تَشعُّ عيونها بانتشاء، وتضحك أفواهها بشماتة واستعلاء. أدركت وقتها أنَّ هذا السمك، الذي اصطيدَ ليلة البارحة، كان قد التهَمَ في أحشائه جثثَ سبعة بحارة من بلدتي الساحلية، غرقوا من سنواتٍ. إلى الآن، لم يُعثر لهم على أثر. قيل لنا: "إنهم شهداء، ولن يتلفَ البحر أجسادَهم. شهيدُ البَحر لا تنال منه الأسماك الضارية إلا بعد سبعة أعوام".

أبحر الصيادون ذاتَ صباحٍ شتوي قاتم. فَضَّلوا لذعةَ البرد القاسي، واسوداد الأفق حين يفغر فاهُ صوبَ الماء، على جوع الصبيان في بيوتهم الضيقة الوسخة، الواقعة في أحياء شعبية مكتظة. يرفض مسؤولو الحزب الحاكم مساعَدَتَهم، لأنَّ بعض البحَّارة يتلكأ في توفير السمك الرفيع لهم. لم يغفروا لهم تمسكهم بقوت أبنائهم، واعتبروه "تحديًا للسلطة ومساسًا بالأمن"، مع أنَّ المساكين كانوا يسلمونهم جلَّ ما يعلق بِشباكهم البالية. كانت الشرطة السرية تجبرهم على "إهداء" جياد السمكات إلى المحافظ "مساهمةً منهم في بناء الوطن وازدهاره". ولا يبق لهؤلاء الكادحين سوى صغار السمك، الذي لا يكاد ثمنه يفي باحتياجات الأسْرة، بعد أن اشتطت أسعار كل المواد.  

التقى بهم الرَّيس عشيةَ السَّرحة (رحلة في البحر لصيد السمك) في مَقهى البلدة. وكعادتهم، احتسوا أكواب شاي ساخنة، وتاهوا في لعب الدومينو، يتجاذبون أطرافَ الحديث حول غلاء المعيشة وقلة السمك في فصل الشتاء. السبب في ذلك سياسي بحتٌ. "سَمَحت حكومتنا لبحاري إيطاليا باستغلال مياهنا الإقليمية، فحرمتنا بهذا القرار الانتهازي من صيد أنواع السمك الرفيعة. وتعبُّها سفنُهم الجبارة بجشعٍ". في البر، استغلالٌ وظلمٌ. وفي البحر، استعمار ومهانَة.      

طلب منهم الريس الحضور على الساعة الخامسة صباحًا. طمأنهم: "ليس النوء من الخطورة بحيث يمنعنا من "السَّرحة"، لاسيما وأننا أضعنا أيامًا عديدة دون عمل بسبب رداءة الطقس وقوة الرياح". لم تعد الجيوب الفارغة تحتمل فراغًا أكبر. وبات إلحاح الشرطة يزعج هشاشة سكونهم: بين يابسة وعُبابٍ، أكواب شايٍ وجولات دومينو، تتخللها أحاديث حول زيجات البلدة ومشاكل الأولاد، وإلماح لقرارات الحكومة حول الصيد البحري.

في تلك الصبيحة الباردة، التقى سبعتهم على رصيف صخريٍ. استقلوا زورَقَهم المهترئ، ذا الأخشاب المفككة، وقد فاحت بين أرجائه رائحة المازوت المحترق، وانتشر الصديد بُقعًا سوداء تُلطخ صفاء الألواح المتآكلة. استقر الريس ومساعده في أسفل المركب، وقد ارتديا برانيسَ سوداء، وارتدى البقية معاطفَ بلاستيكية صفراء. تحريك الشراع، وتشغيل الموتور، وإعداد الشباك. يعبر المركبُ الأمواجَ ببطءٍ وهي تتقاذفه برتابةٍ وخيلاء. انعكست الغيوم على صفحة الماء: سوادٌ يعانق سوادًا، ولجة من الظلام تغازل الأنواء. في هذا المركب، لا تعزف الجوقة نغم الخلود، ولا يجري بين ألواحه شابٌ وسيم وراء حَسناء وردية المُحيا. فقط بردٌ وضيقٌ، ورائحة مازوت كريهة تسد الأنوف.


يتحلق القَشَّارة (تجار السمك بالجملة) حول إبريق شايٍ أسود، في حانوت صغير مُطلٍّ على الشاطئ. ككل مساءٍ، ينتظرون عودة الزوارق. يتطلعون إليها تؤوب محمَّلة بصناديق السردين والوراطة. يحتسون الشاي كأسًا بعدَ كأسٍ، وينتشر دخان سجائرهم الرخيصة، يتحدى لذعة البرد. أطل الشرطي بدراجته النارية، يسأل: هل وصلت المراكب؟ كالعادة، سيتخيَّر للمسؤول أجودَ ما يجودُ به البحر ويحمله إلى بيته. لم يَبدُ مصباح المركب عن بُعدٍ. بعد العصر، هامش التأخر المألوف ساعة أو ساعتان على أقصى تقدير. المهم أن ترجع المراكب بما تيسر من السمك قبيلَ المغرب، فيتسلم القشارة صناديقها وهو حيٌّ يتحرك، ثم يبيعونه خلال الليل إلى السماكين الذين يعرضونه للأهالي فجر ذلك اليوم.  

ظل القشارة يراقبون آفاق البحر ويترصدون المراكب القليلة التي أصرَّت على الإبحار رغم رداءة الجو. عادت جميعها إلا "العصفور"، (الاسم الذي يطلقه الريس على مركبه). بَدأ القلق يدب في النفوس. أظلمت الدنيا وذابت شمس الشتاء الباهتة في غياهب الغيوم. لم يبد أي ضوء مِصباح، ولا لاح مركبٌ، كنقطة سوداء لا تفتأ تكبر مع تقدمه نحو الشاطئ، فتَبينُ ألوانه وشكله تدريجيا حتى يستوي سفينًا كاملاً.

مَخَرت فِرق الدفاع البحرية عبابَ البحر في محاولةٍ للعثور على المركب المفقود. لأول مرة في تاريخ القرية، يشاهد الأهالي طائرة هيلوكوبتر تحلق فوق أمواج المياه الممتدة كصحراء أملاً في رؤية خشبات الزورق المنكوب. "بِلَون الغَرَق" وحُرقة الغياب، سقط والدُ أحد البحارة، ينتحب منهارًا، بعد أن مضت ثلاثة أيام، وضاع كل أمل في بقائهم على قيد الحياة. توقف البحث عن ناجين ورضخ الأهالي إلى أكبر مصيبة حلت بالبلدة. توارى المسؤول عن الأنظار. وغاب أعوان شرطته عن الأزقة الضيقة. قال الإمام: "نال بحارتُنا الشهادة. ولن يتلفَ البحرُ أجسادَهم، ولن تقترب منها أسماكه الضارية إلا بعد سبعة أعوام". نفت خطيبة أحد الغائبين الخَبَرَ: "فرَّ البحارة إلى شواطئ إيطاليا. سيستقرون في سواحلها، وسيعملون في بواخرها. سيرسل لي خطيبي مالَ الجهاز والزفاف. زواجنا في هذه الصيفية".  

مضت السنوات السبع، وها هي الأسماك أمامي ممتلئةً لاحمة. يتعامل هذا الفندق الفاخر مع صيادي إيطاليا وبواخرهم العاتية. وخَرَقَ من بقيَ من بحارة بلدتي مراكبَهم الصغرى، لأن وراءَهم مسؤولاً يأخذ ما تحمله كل سفينة غصبًا. ولم يكن فيها عازف كَمان يداعب بأنامله الأوتار، لحظة تهاوت الصحون وطغى الماء وشاع لونُ الغرق.  

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم