الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

ذهبت إلى المدرسة... ولم أدخلها

جوزف أبي ضاهر
A+ A-

(إلى حفيدي أُودِن)


صباح أمس ذهبت إلى المدرسة. لأوّل مرّة أذهب إلى المدرسة.
لم يكن اسمي مكتوبًا في دفتر الدخول. كان اسم حفيدي "أودن" مسجّلاً، فدخلت معه مختبئًا به.
دخلت إلى عالم جديد لم أعرفه.
غرف المدرسة فارغة حتّى من اللوح الأسود، ولا طبشورة لأتضارب بها مع "الرفاق" أو "لنخربش" معًا صورة "المعلّم" صاحب النظّارتين السميكتين والصوت الأجش.
كانت هناك، عوضًا عنه "آنسة"، ربما، تلبس تنّورة لا طويلة ولا قصيرة، تصل نزولاً إلى حدّ الركبتين، وصعودًا إلى الخصر المشدود شدًّا متقنًا. وهي في الشكل العام على شيء من الترتيب يصل إلى ما يجمّل الوجه ويخفي ما لا تُسَر العين به.
لم أجد بين التلامذة من كان مثلي يلبس المريول الأسود. كانت الألوان زاهية: زهر، أزرق سماوي، أو ما أضيف إلى المريول من خطوط الطول والعرض تزينًا، مع شارة على الصدر ترفع من شهرة المدرسة.
وقفت حائرًا، مرتبكًا. لا يحمل أي تلميذ "بيتَ كتبٍ" خاطته له أمه أو جدّته وفي أحسن الأحوال جارة تعمل في الخياطة احترافًا وذوقًا.
حتّى أنني لم أجد "شنطة" عصريّة في يد أحد الصغار الأكبر منّي عمرًا ومعرفة.
رأيت في أيديهم آلة متوسطة الحجم، وسع مساحة الكفّين أو ضعفهما، سمعتهم يصفونها بالـ "آي باد"، يستعيضون بها عن الكتب والدفاتر والقرطاسيّة التي أخذت المدرسة مبلغًا عنها ولو لم تكن موجودة، إضافة إلى القسط الذي وفّرته العائلة محسومًا من رواتب شهريّة في "قجة" أو "صرّة" لساعة الحساب، وقد أتت.
شددت بيدي على "بيتِ الكتبِ"، الكيس الأسود المعلّق من رقبتي متدليًا جانبيًا إلى الخصر، شددت عليه للتأكد من أن "عروس الزعتر والزيت" لا تزال موجودة. مضغت فراغًا في الفم وشهيّة. ليتهم وضعوا لي معها "عروس تين مطبوخ". النهار طويل، والقابلية على الأكل تنفتح مع اللعب والركض والصراخ مناداة وهيصة.
تحسّست "بيتَ الكتبِ" لأتأكد من أن اللوح الصغير في داخله لم ينكسر: "بعد بكّير تَ تصير تكتب بالريشه وتنقّط حبر ع صابيعك".
هذا الـ"بكير" أظنّه لم يعد موجودًا ولا حاجة به لــ"رفاقي" الصغار الأكبر منّي عمرًا. رأيتهم يكتبون بأصابعهم على الآلة الوسع الكفين أو ضعفهما، تشبه اللوح الصغير الموجود معي في "بيتِ الكتبِ". يكتبون، يرسمون، يقرأون، لا خوف من نسيانهم جَدوَل الضرب والاحتساب السريع في الجمع والطرح والقسمة، ولا حاجة لأكل الزعتر والزيت لــ"تفتّح الذهن". حين دخل "رفاقي" الجدد كلٌ إلى صفّه بقيت خارجًا، حتّى "أودن" حفيدي دخل وبقيت خارجًا.
لم ألحق به ولم أختبئ به. خفت ينكشف أمري فيسخرون منّي، أنا الآتي من زمن الأحلام إلى واقعهم الذي لا أعرف عنه شيئًا.
عذرًا حفيدي "أودن"، لن أستطيع أن أكون معك، ولن أستطيع الاختباء بك. عمرك سبقني. سأرجع إلى البيت محنيّ الرأس، لم أستحق نعمة أن أكون في عمرك، فأكون لك رفيقًا في عمرٍ آتٍ سينظر إليَّ صورة بالأبيض والأسود.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم