الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

إعتذار

المصدر: "النهار"
هدى المقاطع
إعتذار
إعتذار
A+ A-

يفتح ذراعيه ويقول بصوت ملؤه الاعتزاز: هذه هي جنّتي. هل تشعرين بالراحة الآن؟! 

قبل ايّام قليلة، افتعلتُ رغبتي في زيارة مكتبته التي لم يكف عن امتداحها مثل حبيبته الفتون. صرت أتطلع إلى رؤيتها، وأتصنع لهفتي لملاقاة هذا الكنز، كنزه الأثير. في لحظة غير متوقعة، دعاني إلى زيارتها.

زيارتها لم تكن غايتي على رغم كوني قارئة نهمة ومشغوفة برائحة الكتب القديمة، تلك التي تخصه هو. لعبت دور امرأة تحبّ الكتب والمكتبات. كاذبة أنا. صدّقني هو ودعاني. مكتبته الضخمة التي ورثها عن جده، كانت تحتوي مئات الكتب، مرصوفة على رفوف خشبية ممتدة على مساحة ثلاثة جدران كاملة، يتوسط كل رف كتاب يتطلع إليك: هذه الكتب المهمة والأحب الى قلبي، لا أخفيها بين باقي الكتب. جاوبني عندما تساءلت عن وضع الكتب المغاير: "الموسيقي الحالم"، صورة القصبجي على الغلاف، "الخبز الحافي" لمحمد شكري، "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي.

أتبع خطواته وعيناي لا تكادان تفارقانه وهو يتحدث عن الأدب والفن. لم يكن على قدر عالٍ من الوسامة، لكن ما جذبني إليه هو ذكاؤه، عقله، ثقافته العالية وإبداعه الفني.

في إحدى المرات أسرّ صديق إليَّ بأنه يشتهي مضاجعة العقل أكثر من الجسد. بمعنى أن المرأة الذكية تثيره أكثر من المرأة الجميلة.

أقف أمامك أتأمل عينيك العسليتين. لا. عينيك الخضراوين. ليستا خضراوين ولا عسليتين. عيناك بين بين. لو بحت لك بما أسرّ صديقي إليَّ، هل كنت لتكتشف أني كاذبة وأني لم آت لأجل المكتبة ولا الكتب؟!

موسيقى فلامنكو تصدح من مكان ما. تستمر في وصف كل كتاب يسقط بين يديك. تتلمسه، تفتحه برفق. تذكر أسماء لا تتعرف أذني إليها. أكررها في رأسي كي لا أنساها، أنا المعتدّة بثقافتي. ترفع عينيك. تحدق فيّ، فأشيح بصري بعيداً. جبانة أيضا أنا. أخشى أن تكتشفني. يقولون عيون العاشق فضّاحة، ومن السهل تمييز بريق الهيام في عينيه. فكيف لو كان المعشوق على قدر مخيف من الفطنة والذكاء؟

تشدّني عبارات معلقة على الجدران: "إلهي قل لي من خلا من خطيئة وكيف تُرى عاش البريء من الذنب إذا كنت تجزي الذنب مني بمثله. فما الفرق بيني وبينك يا ربي"، مذيلة بتوقيع عمر الخيام. أتذكر هذه العبارة جيداً، فقد كانت افتتاحية مثيرة لأحد فصول رواية "سمرقند" لأمين معلوف.

يمسك كتاب "في مديح الخالة". يوجه إلىَّ سؤالاً إن كنت قد قرأته من قبل. أتلعثم، وأقول لا بدلاً من نعم! يبتسم. يشرح لي فكرة الرواية وبداية الصحوة الجنسية لطفل. أنا المعتدّة بحججي وسجالاتي، أكون أستاذة أمام الجميع، ومعه أصبح مجرد تلميذة مسحورة بحديثه.

تمتد أصابعه لتسحب كتاباً من على الرف، يقول: آه يا ملحمة جلجامش النص الجبار، تصوري إن عمره نحو ٤٥٠٠ سنة! يفتح الكتاب يقرأ منه: كيف رغبت عشتار بجلجامش وجرأتها بعرض نفسها عليه ورفض جلجامش أن يكون زوجها وعدّد مثالبها وعيوبها. هل من الذوق أن يقع اختياره على هذا النص ليُسمعني إياه؟ برغم هذا، أحببت النص، بل همت به من اللحظة الأولى حتى عندما أمسك كتابا آخر وبدأ يقرأ منه وأنا أتتبع حركة شفتيه ولم أكن أستمع إليه. كنت مسكونة بكلمات الملحمة المجنونة، مذهولة بالبطل جلجامش وشعرت بعشتار تتلبسني.

ليتني عشتار وأنت جلجامش. من غير توبيخ، سأكون لك الموقد الذي في البرد لا تخمد ناره، سأكون كالباب الأمامي يصدّ ريحاً وعواصف، قلبي قصر ينتصر فيه الأبطال. سأكون قربة تروي صاحبها. تعال يا جلجامش، مدّ يدك، والمس مفاتن جسدي ودعني أتمتع برجولتك أنت وحدك. أنا عشتار من غير عشاق سابقين. أنا عشتار بلا ماضي ايشولنو. أنا عشتار التي لا تعرف الجحود. عشتار البكر، وأنت عشيقها الأول. أنت الضيف المرحَّب به في كل الأوقات، أنت الفارس الذي يرضيني. ليتني أملك جرأة عشتار. أريدك يا جلجامش مع اختلاف رد الفعل. فأنت لست إلهاً! أريد جلجامش، ثلثه بشر وثلثاه أيضاً بشر. ليتني أملك نصف جرأة عشتار، إلهة الحب والحرب والخصوبة. أنت جلجامش من غير سيف ولا رمح. من دون عضلات مرعبة. دع عنك حكمة الألوهية وتقدم. ليتني أملك ربع جرأة عشتار.

لم يكن اختياري للنص مصادفة. ولم أبيّت النية لفعل ذلك. أنا الأسير المقيد بمبادئي، أنا العبد المحكوم بعهودي. سيدي، عقلي الباطن هو الذي اختار النص لجلدي أو لجلدها أو ربما لجلدنا كلينا بسوط ايروس، إله الحب والرغبة، الفتى الذي يخبئ الشهوة العنيفة بجسد غضّ وغِرّ، كم يشبهني الآن. هي تكبرني بسنوات قليلة. هي أم جميلة، وهذا يكفي أن يثير قبيلة رجال داخلي.

منذ دخولها مكتبتي وصوت صديقي يشاغبني وهو يحكي لي تجربته مع امرأة أربعينية كيف اكتشفت بتلذذ أماكن جسده السرية. وهو يردد مفردة حديثة "ملف milf "ما بك يا أخي. لا تعقد لي حاجبيك. أرأيت كيف أن المعرفة لا تختصر بالكتب والأدب. المرأة، يا صاحبي، كالتفاحة كلما نضجت أصبح طعمها ألذ، وجاهزة للقضم في الحال.

يومها كنّا واقفين أمام الرف الخاص بالأدب الايروتيكي، وكان كتاب "نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب"، هو الذي استدرج صديقي العشريني للحديث عن مغامراته النسائية المتعددة بكل صفاقة. وأنتِ كذلك، كما قال صديقي. "ملف". مبادئي سيدٌ جائر، والارتباط الروحي الذي يتولد بعد الالتحام الجسدي هو لعنتي. خوفي سيدي، وحبي للتملك هو ما أتجنبه. أنا الهش الذي يهلكه العشق، اتخذت قرار حماية نفسي من الألم. قطعت عهداً ووعداً على صون روحي القابلة للكسر من علاقة حب عقيمة. وبرغم ذلك دعوتك لتقتحمي مملكتي لأكون قريباً من نارك. لم أعد أفهم نفسي. أرغب بالشيء ولا أريد إرتكابه. تنعتينني بالجبان في داخلك الآن أو ربما بما هو أسوأ. تشككين في رجولتي. تشتمين بلادتي وقلبي البارد. أرى ذلك في عينيك الصادقتين. لعينيك لون الصدق. هل سمعتِ بلون الصدق من قبل؟ هل رأيته؟ أجمل ما فيه أنه بعيد كل البعد عن اللون الرمادي الذي يشبه صراعي الداخلي.

تخطفين ديوان الشاعر محمود درويش الذي كان مرمياً على طاولة المكتب أمامك. وبدهشة الأطفال تفتحينه لتستقبلكِ أوراقي الحزينة. لم أنسَ في أي كتاب تقبع حكايتي البائسة اليائسة، وها هي التفاحة الآن تزيد الجو توتراً. وباكتشافها المفاجئ تسأل باندهاش: هل تكتب؟!

الشحوب يغمر وجهي، واحساس يشبه الشلل يصيب لساني، وخدر ثقيل يتسلل من رأسي الى بقية أجزاء جسدي الواقف أمامها. لو حاولت فتح الورقة وقراءتها فستعرّيني وتكتشف هشاشة القلب الناعم كأنثى. كأنثى. يجب الاّ يكون الرجل في ثقافتنا مرهف الحس، عطوفاً، أو حتى تهزه رعشة قلب حد البكاء. فالبكاء للإناث فقط.

في ذلك اليوم لم أجد غير الورقة منقذاً ومهرباً من خيبة حبّ.

زميلة الدراسة، التفاحة التي في طور التكوين والنمو، كانت تبعث فيّ طاقةً لا تنضب. استيقظ كل صباح في نشاط، ولا اذكر أنني اشتكيتُ يوماً من مرض أو تغيبتُ لسبب ما. كنت أذهب الى الكلية من أجلها، أجلس خلفها على المدرج وأتأملها. كانت محط إعجاب شبابِ دفعتِنا، ليس لأنها الأجمل فقط، بل لأنها كانت الأكثر أناقة، والأقوى شخصية والأكثر تحرراً. تلاحقها عيناي خلسةً وعلناً، وإن التفتت إليَّ، أرد بابتسامة ويتهيأ لي أنها تبادلني مثلها.

من الممتع أن تحب بصمت وتعيش دور البطولة في عالمك الخاص، الى أن تتقن الدور حد التقمص. ظننت بكل سذاجة الكون أنها تخونني عندما سمعتها ذات صباح تدندن أغنية بفرح عارم "الله أمر، أعشق وأحبك يا بدر". حينها اشتعلت بذرة الأجداد المتحجرة في روحي وكرهت المدعوّ بدر، وكرهت نفسي أكثر. حال عودتي ظهراً الى البيت، رميتُ جسدي المثقل بالهزيمة على أرض غرفتي حاضناً ركبتيّ ورأسي مكسور بينهما. وانفجرت باكياً.

الآن "أحس حيال عينيك بشيء داخلي يبكي"، كما قال أمل دنقل. لو قرأتِ النص الباذخ التعاسة، "أحس خطيئة الماضي تعرت بين كفيك"، وبررتُ لكِ، كما فعلت مع صديقي المشاغب، قبل أن أدس الورقة في الكتاب إياه، لكانت الورقة نائمة باطمئنان أبدي في درج المكتب، الى أن وجدتها بين يدي صديقي وهو بابتسامة سخرية تعلو فمه يستفسر عن سر الحكاية، مشيرا الى الرسالة. رسالة أم قصة؟ سمّها ما يحلو لك. فتبريري سيكون واحداً: كل ما حدث من محض الخيال".

ستقولين كما قال صديقي النزق: يا لك من عاشق منحوس. لو كنت مكانك لجعلتها تهيم بي عشقاً حد المجون على الورق على الأقل. وسأكذب عليك كما فعلت مع صديقي: لو لم يجن قيس بن الملوح بعد فراق ليلاه، لما أنشد الأشعار الخالدة هياماً في البراري، ولو لم ينتحر بالسم روميو لما غرست جولييت خنجره في قلبها ليصبحا أشهر أيقونتي عشقٍ في التاريخ. ولن تتلفظي بما قاله النزق باستخفاف: يا لحظّك العاثر حتى في خيالك تخرج مهزوماً.

وإن تلفظت به أو بما هو أسوأ، فلن أستدرك صمتي بغير "سامحيني!"



حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم