كيف نصنع وطناً؟ سؤال صغير بعدد كلماته كبير بحجم الأهداف والأحلام التي نطمح إليها لبناء وطن يحاكي طموحاتنا ويواكب قدرة أجيالنا الجديدة في الخلق والإبداع. انطلاقاً من عملي في الصحافة، سأجيب. فغالباً ما وضعني عملي في مواقف محرجة ومهينة أحياناً، منها تعرضي لمحاولات يطلق عليها البعض "الرشوة"، فيما يضعها أصحاب "الرشى" في إطار "المكافأة العينية" لجهودي كتبرير يخفف من وطأة "فعلتهم".
تجاربي هذه هي نسخة مصغرة ومشابهة لما يحصل في معظم دوائر الدولة، فالرشوة كالطقوس المقدسة تجذرت في وجدان الموظف والمواطن على حد سواء، واقنعت الجميع ان تنظيف الادارة "فالج لا تعالج". لذا لا عجب أن يعتبر غالبية اللبنانيين الوظيفة العامة فرصة للثراء السريع والارتقاء الاجتماعي، وعقد الصفقات الخاصة... ولسان حالهم يقول "نيالو موظف بالدولة... مظبط حالو"... لِم لا؟ ما دامت الدولة بقرة حلوب لا يجف ضرعها، والقطاع العام مستباح للمحسوبيات والحزبيين وأزلام زعماء الطوائف وقوى الأمر الواقع، يُعَيِنون في دوائره من يساعدهم – وأحياناً يمولهم- في تمرير الخدمات الخاصة على حساب القانون والمصلحة العامة، ويديرونه كيفما تقتضي مصالحهم السياسية والانتخابية على قاعدة "مرّقلي تا مرقلك" من دون مساءلة أو محاسبة؟
كيف نصنع وطناً؟ الجواب ليس عند "ماكينزي" لتهدينا الى مسار الحل الذي نعرفه جلياً... ولكننا كالنعامة ندفن رأسنا في التراب.
الحل بكل بساطة في وصول رجال ونساء أكفياء الى مواقع السلطة بالانتخاب النزيه لإدارة الدولة بمنطق وطني لا مصلحي.
الحل في تجريد السلطة التنفيذية من أي سلطة مباشرة على مؤسسات الخدمة المدنية والتفتيش المركزي والقضاء لتحرير العاملين فيها، وتعزيز قوتهم بالقانون وإبعاد شبح الكيدية والانتقام عنهم.
الحل في تعزيز ثقافة الضغط الإعلامي والشعبي حتى فرض الاستقالة على أي مسؤول سياسي أو اداري يثبت عليه جرم الفساد.
الحل في مكننة مؤسسات الدولة وإدخال التكنولوجيا الحديثة الى كل مفاصلها لإلغاء التماس المباشر بين المواطن والموظف، وتالياً إقفال أبواب الكسب عند إنجاز المعاملات.
والحل أيضاً عندنا نحن من يطلق علينا لقب "السلطة الرابعة"، إذ علينا أن نتحلى بالموضوعية واحترام الحقيقة فلا نناصر فاسداً لأنه "من خطنا"، ولا نهاجم "الآدمي" لأنه خصمنا بالسياسة.
الوطن: فكرة حضارية. الدولة: مؤسسات. السلطة: مسؤولون وقِيَم. وأقصى طموحي اليوم وطن يشبه أقله دول العالم الثالث... لكن ما دمنا شعباً يغلّب مصلحة الزعيم والطائفة على مصلحة وطنه، فإنه يصلح علينا قوله تعالى "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ".