الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

روتردام ٤٧ – "مصنع اللاشيء": ملحمة ثورية طوباوية شاعرية سياسية نضالية ميوزيكالية لمعاداة العالم

المصدر: "النهار"
روتردام ٤٧ – "مصنع اللاشيء": ملحمة ثورية طوباوية شاعرية سياسية نضالية ميوزيكالية لمعاداة العالم
روتردام ٤٧ – "مصنع اللاشيء": ملحمة ثورية طوباوية شاعرية سياسية نضالية ميوزيكالية لمعاداة العالم
A+ A-

"مصنع اللاشيء" هو ما يمكن تعريفه بـ"قنبلة سينمائية". فيلم ثوري شيوعي الهوى، ينتمي بلا أي عقدة إلى سينما سياسية سبعيناتية ذات إتجاه واضح، يتأبط الأفكار الكبيرة كمَن يذهب في نزهة، لا كمَن يخوض معركة. الا ان الطريق هنا تلتقي بطرق أخرى، لترد سالكها دائماً إلى نقطة الانطلاق. كلّ الحلول مؤجلة، كلّ الآفاق مسدودة، كلّ الأفكار المطروحة تبقى مسوّدة خارح حيز التنفيذ. الأزمات ليست جماعية فحسب، بل تطال الفرد في عيشه الحميمي، في علاقته بمحيطه، في أبسط حقوقه المدنية.  

الفيلم أُنجِز تحت اشراف البرتغالي بدرو بينو، وهو ملحمة من ٣ ساعات تنتصر لإحدى القيم الأساسية في كل مجتمع: العمل. يمكن اعتبار "مصنع اللاشيء" منشوراً سياسياً، يتكلّم عن كلّ شيء، ضمن تدافع مستمر للأفكار، ولكن بتنسيق رهيب بينها. نكاد نشعر بالذنب اننا لم نكتشفه في وقت أبكر. فوسط كمّ كبير من الأفلام المعروضة، فاتنا ان نشاهده في الدورة الأخيرة من كانّ (قسم "اسبوعا المخرجين")، فكان لقاؤنا معه في مهرجان روتردام (٢٤ كانون الثاني - ٤ شباط) الذي يستعيد كلّ عام عدداً غير قليل من الأفلام المعروضة سابقاً في تظاهرات سينمائية دولية.  

حجة الفيلم بسيطة جداً: عمّال مصنع في ضواحي لشبونة يحضرون إلى عملهم صباحاً ليجدوا أنه لم يعد يحتوي على معدات تسمح لهم بمواصلة الشغل. بعد مفاوضات غير مثمرة مع الادارة، يستولي العمّال بالقوة على المصنع. يرفضون قبض التعويض المالي الذي تقترحه عليهم الادارة. يصممون على البقاء، والإمساك بمصيرهم، ومواجهة البراغماتية الاقتصادية التي تأكلهم لحماً وترميهم عظاماً، وترغب في رؤيتهم عاطلين عن العمل. الشغل يتواصل في المصنع، لكن بلا أي إنتاجية. وهذا وحده "ميتافور" بديع للواقع اليوم؛ تجسيد سوريالي لانتاج الفراغ.

هذا الوضع الطارئ سيحمل معه شيئاً ايجابياً إلى العمّال، اذسيحدث شرخاً في المنظومة ويقرّب بعضهم من بعضهم الآخر. يتحرر الكلام ويتعزز التضامن وتحدث رغبة في التفكير في عمق المشكلة، أي التفكير بعيداً من الشعارات المستهلكة المكررة. صحيح أن العمّال يخسرون عملهم، لكنهم يستعيدون أيضاً الكثير من الطاقات الايجابية، إلى درجة اننا نسأل للحظة اذا كان هذا الفيلم لا يعادي العمل أولاً.     

النصّ الروائي ينطوي على نزعة وثائقية قوية، لكنه يحملنا مع تقدم الأحداث وتبلور الشخصيات ورصد البيئة، إلى مناطق غير آمنة سينمائياً، في نوع من التماهي بين المعلن والمستتر. نهاية خدمة عمّال في مصنع آيل إلى الاختفاء، ومعه الكثير من الحكايات والذكريات والعلاقات الانسانية، تغدو مناسبة لا لكلام مؤدلج كبير، بل لإنتاج خطاب حول الرأسمالية والأزمة الاقتصادية وهيمنة الصين والهجرة، الخ. مع تلميحات إلى مسؤولية اليسار الأوروبي المتواطئ. وفي الأخير، نجد أنفسنا فجأةً أمام ميوزيكال عمّالي...


العمل جماعي اذاً، أُنجِز في اطار تعاونية، أي ان خلفه أكثر من مخرج، ولكن تحت اشراف بدرو بينو. هؤلاء استمعوا إلى تجارب العمّال الحقيقيين وحكاياتهم، وأحضروهم ليجسّدوا أنفسهم أمام الكاميرا. نحن هنا ازاء فيلم مهموم فعلاً بالواقع، وبكيفية تجسيده على الشاشة، وبكيفية إيصاله إلى المُشاهد بأقل تشوّه ممكن. في هذا، يشي الفيلم بتفوّق وعبقرية. 

وصول مخرج سينمائي يساري لإنجاز فيلم عن العمّال وبثّ الأمل في روحهم، يدخل الفيلم في مزاج مختلف وحيز فكري آخر. يتجاوز توصيف الحالة ليصبح تعليقاً ثقافياً على الأحداث. معزوفة موسيقية بأصوات ولغات وإتجاهات فكرية متعددة. من هنا نلتقط بعض النشاز، ومن هناك انشودة للحرية. بدخولنا في هذا الفصل من الفيلم، ندخل إلى مختبر الأفكار المتصارعة التي ليست بالضرورة شغل العمّال الشاغل. مشهد بعد مشهد، يصبح الفيلم ضد نظام عالمي كامل، مُدان لمجرد وجوده. لا يناقش المسببات، بقدر ما ينظر في النتائج. وعندما يختار العمّال ادارة المصنع بأنفسهم، يجد لهم الفيلم عوائق أخرى، هي من صميم الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

يحفر الفيلم عميقاً في الأرض، لكنه لن يستخرج منها شيئاً يشفي الغليل. يبقى على بعض الأفكار الطوباوية، ولكن من دون ان يؤمن بالضرورة بعالم أفضل، ومن دون ان يرفع كثيراً من سقف التوقعات. النهاية بديعة، اذ لا ينسى الفيلم نداء الغرائز، الرغبات الجنسية، عذاء الروح والجسد. هذا كله يضع "مصنع اللاشيء" في نطاق أوسع، في رؤية انسانية شاملة، بعيداً من فكرة التضامن الضيق، وصراع الطبقات. وكم تأتي مباغتة اللقطة التي يفرج فيها والد أحد العمّال عن بندقية طمرها في الأرض منذ ثورة القرنفل البرتغالية. انها لحظة صادمة في مصارحتها بحقيقة معينة: السلاح تغير، والعدو تغير، لا بل يأخذوجهاً مختلفاً في كلّ لحظة، والأصعب ليس في الانقضاض عليه، بل تحديده.  

اللافت في الفيلم انه منسوب إلى كلّ الذين شاركوا فيه، سواء العاملين في الإنتاج أو الإخراج أو المونتاج، ما يضعنا أمام حالٍ غير مسبوقة من "سينما المؤلف"، التي لا تذهب ملكيتها إلى شخص محدد وإن تصدّره اسم بينو. "مصنع اللاشيء"مشروع متصالح مع نفسه، أولاً بسب الانسجام بين الشكل والمضمون؛ وثانياً، لأنه لا يوفّر أجوبة. أمام انعدام الحلول، يفتح المجال لأسئلة كثيرة، منها: "مَن أصبح في خدمة الآخر،الإنسان أم رأس المال؟". الفيلم يستفيض شرحاً ومعاينة واستدلالاً. هو غني ومتشعّب في هذا. ككلّ شيء، يبلغ حدوده في الأخير، بعد أن يستهلك كلّ الاحتمالات.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم