الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

هي "تشيخوف الكندي" وخيّاطة القصة التي لن تُكتب

روجيه عوطة
A+ A-

"تشيخوف الكندية"، هكذا وُصفت المؤلفة الكندية أليس مونرو. الوصف هنا يتعلق بالأسلوب السردي الذي تعتمده مونرو في أغلبية قصصها من أجل معالجة موضوعات مجتمعية محلية. فعلى طول سيرتها الكتابية، رغبت المؤلفة في تناول الحياة اليومية بتفاصيلها المهملة، ومن ثم الإستناد إليها كي تتحرك الشخصيات وفقاً لعلاقتها مع محيطها. ذاك أن الشخصية القصصية غالباً ما تعاني الضجر، أو الروتين الريفي، فتسعى إلى التخلص منه، أو تداركه بالمغامرة، واجتياز حدود المكان، تالياً، السماح للسرد بالظهور كأنه طريق آخر لبلوغ العيش في الإثارة. والحال هذه، أن مونرو تعرف طريقين، ظلت تسير فيهما إلى أن اعتزلت منذ أكثر من خمسة أشهر، يوم قررت أن تتقاعد عن الكتابة، أو بالأحرى عن الإصطدام بالواقع، وإعادة تأليفه من جديد.


الطريق الأولى، التي زرعتها مونرو ذهاباً وإياباً، هو طريقها إلى المدرسة، حيث عجزت عن تكوين صداقات ملائمة لها، فبدأت تتسلى بتأليف الحكايات بدلاً منها. من وحدتها تلك، خرجت مجموعتها القصصية الأولى "رقصة الأطياف السعيدة" (1968). إذ وجدت في السرد وسيلة لتخفيف تعرقلها السردي. على هذا الأساس، انطلقت في الكتابة المتميزة باللغة السهلة، والدلالة الواضحة. كأنها، بذلك، تتحدى الواقع الذي لطالما كان عسيراً، وغريباً بالنسبة إليها. أما الطريق الثاني، الذي لم تفارقه، فهو ذاكرة والدتها المفقودة، التي ستستمر في البحث عنها مخافة الإصابة بالباركنسون، على ما حصل لأمها، التي شكلت مصدر إزعاج وتعب بالنسبة إلى إبنتها، وخصوصاً أنها كانت تدفعها إلى طموحات، لا قدرة لها على تحقيقها.


الكتابة المزدوجة
في هذا المآل الفقداني، تتحول كتابة مونرو إلى كتابة مزدوجة. فهي تسرد كي لا تفقد المتكدس في الذاكرة، كما أنها تقص كي تنتهي من ذاكرة أخرى. تالياً، من الممكن الإشارة إلى هذا الإزدواج السردي في اختيار مونرو لنوع كتابتها، أي القصة القصيرة، وليس الرواية. فالأولى، بحسب ما قالت الكاتبة، "تعيدني إلى نقطة الصفر وتمنحني لحظات تجريبية بكثافة معقولة، ولكن من دون توريط"، أما الثانية، فتحتاج إلى عنصرَي الزمن والترابط، أي إلى ركائز الحياة الكاملة، وهذا ما لا تريد مونرو أن تبحث عنه، لأنه بمثابة فخ، قد تقع فيه. لا تشعر المؤلفة بالميل إلى السرديات الطويلة، التي تنتظم الشخصيات على أسسها، من أمكنة ووقائع وعقد، ما يؤدي إلى إلغاء الشخصية لصالح الحدث. هذا، بالتحديد، ما لا ترغب فيه، لأن غايتها الرئيسية من السرد هو الرجوع إلى طريقي الوحدة والفقدان، أي إلى "النقطة الصفر"، التي تقع في عالم مضطرب بهدوء، وعنيف بخفة.
من الناحية نفسها، وبعدما ألفت ذات مرة ما شُبّه أنها رواية، "حيوات البنات والنساء" (1971)، عبّرت أليس مونرو عن ندمها بالقول إن كتابها الآنف ليس إلا سيرة ذاتية. هذا يعني أنها في حال تأليفها قصة طويلة، فمن المرجح أنها تعبّر عن رغبة في عيش الحياة الواقعية، وليس تركيب حياة أخرى. نتيجة ذلك، تفضل مونرو كتابة القصة القصيرة، التي تتيح لها التوازن بين النص المسرود والواقع الحيّ، وهو توازن حافظت المؤلفة عليه في حياتها اليومية، متنقلةً بين إدارة المنزل والكتابة، إلى درجة التطابق بين الدورين. في هذا السياق، أصاب بعض النقاد، الذين رأوا في قصص مونرو نصوصاً منزلية، تدل على نكوص بطيء اعترى حياة المرأة، التي انتقلت من امرأة متحررة في الستينات إلى "ربة بيت"، تعتني بزوجها وأولادها. كما لو أن السرد هو استرجاع لتلك الحقبة المثيرة وتخلي عن شؤون المنزل.
كتبت أليس مونرو عدداً من الكتب، أبرزها "أقمار جوبيتر"، و"عشق"، و"امرأة طيبة"، و"أسرار مكشوفة" إلخ. وقد ركنت في قصصها إلى أسلوب وصفي، يظهّر الواقع، ويبحث في أنماط حياته، بهدف إسناده بسرديات مرادفة له، وبديلة منه. فمن يقرأ قصصها الدائرة بأحداثها في أونتاريو، يتعرف إلى المكان الكندي، بمدنه وأريافه الصغيرة. إذ تبرع مونرو في تصوير الأمكنة كأنها تبني ديكورات نصية، تسعى الشخصيات إلى استكشافها والتفاعل معها بطرق يسيرة وبائنة. الأمر، الذي يصير لغة مونرو على درجة من القص المباشر، أو المؤلف انطلاقاً من سارد أساسي، يروي الأحداث، ويشير إلى التبدلات، من دون أن يفلت من تحديد المعنى، بحيث يشرح للقراء ما يجري، ويتوقع الوجهة، التي تسلكها الشخصيات. تضبط مونرو قصصها بسارد أساسي، يقطب الأحداث، ويعقدها، قبل أن يترك للشخصيات حرية الإنفكاك منها. في هذه الجهة، يتشابه دور السارد والمهنة، التي حاولت مونرو أن تتعلمها في طفولتها، أي الخياطة.
تحوك أليس مونرو نصوصها السردية لا كي تعين الشخصيات على ارتدائها، بل كي تسلّمها لرياح الشمال، التي تهب على العيش اليومي، واهبةً إياها دلالات أخرى، لا سيما على إثر الخيال المنزلي الذي لطالما تمتعت المؤلفة به، قبل أن تتقاعد عنه. بقرارها هذا، لا تكون مونرو قد أنهت مسيرة كتابية شاقة وطويلة، بل أنها باشرت رحلة أخرى. إذ قالت في إحدى مقابلاتها إنها بعد توقفها عن الكتابة، سيصبح في مقدورها تدبر شؤون حياتها. ولكن، وفي حال التمسك بتجربتها حيال الترادف الفقداني بين السرد والواقع، لا بد من القول إن تقاعد مونرو هو قصة أخرى، فمن خلاله، تطل على الحياة، وربما بسببه حصلت على جائزة نوبل للآداب. فالكاتب غير قادر على التقاعد، فهو كذبته الماكرة للإقتراب أكثر من الحياة، وسردها من دون الإعتراف بجميلها الأليم.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم