الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

مذكرات- قاتل الأرملة والأب في الشوف يوقفه رجال التحري في سوريا

العميد المتقاعد أنور يحيى
مذكرات- قاتل الأرملة والأب في الشوف يوقفه رجال التحري في سوريا
مذكرات- قاتل الأرملة والأب في الشوف يوقفه رجال التحري في سوريا
A+ A-

يتركز عمل المفرزة الجنائية في الشرطة القضائية على ملاحقة المطلوبين وتنفيذ المذكرات العدلية المستعصية والاستنابات القضائية لكشف الجرائم الغامضة والتي تعجز عنها المخافر والفصائل في الشرطة والدرك، والتي تستدعي الخبرة والشجاعة، وإتقان أساليب التعاطي مع المخبرين واستثمار الأدلة الجنائية، ركيزة الإثبات والأحكام الجزائية لدى المحاكم. تملك الشرطة القضائية محققين اكتسبوا الخبرات وأساليب التقصي والتخفي للإيقاع بالجاني، وفقاً لما تجيزه القوانين النافذة. 

مطلع العام 1968، قتلت أرملة شهيد في أحد الأحزاب، بالرصاص أثناء توجهها للحصول على معونة من أحد السياسيين، في ظروف غامضة. وفي اليوم عينه قتل أحد رجال المنطقة غدراً في المحلة ذاتها. وقد حامت الشبهات حول الشاب سليم، من منطقة الشوف، في قتلهما لأسباب لم تتضح في حينها. ووفقاً لتأكيد أكثر من مخبر، ووفقاً لمعلومات قدمها بعض ذوي الضحايا، فقد فر المشتبه به إلى قرية شقا في جبل العرب بسوريا حيث استوطن هناك، وانخرط في العمل الفدائي ضد إسرائيل في "حرب الغرية" الذي أيدته سوريا ومصر بعد نكسة حزيران 1967، التي احتلت بموجبها إسرائيل سيناء والضفة الغربية والجولان.

جرى التحقق من إقامة سليم، (45 سنة)، في أحد المنازل قرب مخفر درك قرية شقا السورية. وقد سمحت له القيادة السورية بحمل السلاح ضمن مجموعة كوادر من المقاومة الفلسطينية للقتال ضد العدو الإسرائيلي!.

أصدر قاضي التحقيق في جبل لبنان مذكرتي توقيف غيابيتين بحق سليم بجرائم قتل وسرقة. وقد أكدت الأدلة والشهود إقدامه على قتل المرأة، (ربما عن طريق الخطأ!!)، وعندما نهره أحد الرجال المعروفين منه، بعد كشف جريمة القتل، أطلق عليه الرصاص من بندقية حربية يحملها باستمرار، خوفاً من كشف جريمة قتل المرأة، وفر إلى جهة مجهولة.

تركت جريمة قتل السيدة الأرملة والرجل المستقيم السيرة، أبشع الأثر لدى السكان الذين طالبوا الزعيم السياسي في الشوف، بالضغط من أجل توقيفه بسرعة، استدراكاً لعمليات الثأر في الجبل، من قبل ذوي الضحيتين. فاستدعى المقدم رؤوف عبد الصمد، قائد الشرطة القضائية، الملازم الأول بدري الغزال، رئيس المفرزة الجنائية في بعبدا، وطلب منه مضاعفة الجهد لتوقيف الجاني، ولو كان في قرية شقا السورية!

بعد الاستعلام الدقيق، والتحقق من مكان إقامة الجاني، والأسلحة التي ينقلها، وعبر معلومات من رفاقه، رسم الضابط الخطة. ولكن تنفيذها في سوريا كان يستدعي مؤازرة الأمن الجنائي السوري.

سطّر النائب العام التمييزي، القاضي نبيه البستاني، برقية إلى "انتربول" دمشق والأمن الجنائي فيها، لتسهيل مهمة الملازم الأول بدري الغزال لتوقيف الجاني والمطلوب للنيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان بجرائم القتل والسرقة والأسلحة.

لم تكن عمليات التنسيق الأمني بين لبنان وسوريا في حينه في أحسن حالاتها، حيث كان لبنان يستضيف معظم المعارضين لحكومة الرئيس نور الدين الأتاسي، ولا توجد اتفاقية لتبادل المطلوبين والمحكومين بين البلدين. لكن الزعيم السياسي في الشوف وعد باسترداد سليم، إذا ما وُفّق الملازم الأول بتوقيفه في شقا السورية بطريقة دقيقة.

صبيحة أحد أيام شهر نيسان سنة 1968،انطلق آمر المفرزة الجنائية بسيارته البيجو العسكرية ولكن بلوحة مدنية، حاملاً لوحتين خصوصيتين سوريتين لاستخدامهما عند الضرورة، مرتدياً لباساً يطابق لباس سكان الجبل للتمويه وتسهيل مهمته، وناقلاً الأسلحة الضرورية لتوقيف المدعو سليم المسلح والذي يرتبط بعلاقة جيدة مع رجال مخفر الدرك وقيادة المنطقة العسكرية، لاسيما بعدما ذاع صيته ضمن مجموعات دربها الجيش السوري بحرب الغرية للقيام بعمليات فدائية ضد العدو الإسرائيلي. هذه الوقائع جعلت مهمة الضابط أكثر صعوبة وتعقيداً، لكنه صمم على التوجه إلى شقا لتوقيف المشتبه به.



وصل برفقة الرقيب الزمار والعريف المقداد إلى قيادة الأمن الجنائي في دمشق حيث قدموا له الدعم وواكبته دورية منه باللباس المدني المتطابق مع لباس أهالي شقا.

وفقاً للأصول، توجهت دوريتا الأمن الجنائي السوري والدورية اللبنانية إلى القيادة العسكرية في السويدا، حيث يتواجد عشرات الضباط في مكتب العقيد عبد الجليل، قائد جيش محافظة السويداء. وبعد أن أطلعه الملازم الأول بدري على مهمة توقيف سليم ، المطلوب للقضاء اللبناني بجرائم قتل، بمؤازرة الأمن الجنائي السوري، استمهله العقيد إلى اليوم التالي ووعد بتسليمه إياه في حال وجده، لأنه غالباً ما يخرج في مهمات تدريب، ولفته إلى أن هناك خطورة بتوقيف سليم لإتقانه استخدام السلاح والحيطة التي يتخذها لنفسه منعاً لتوقيفه وسوقه إلى لبنان. اتفق الضابط اللبناني مع العقيد السوري على الحضور صباح اليوم التالي لاستلام سليم إذا ما وُفّق العقيد باعتقاله.

بعد خروجه من المكتب، اتفق بدري الغزال ودورية الأمن الجنائي السوري، على التوجه مباشرة إلى مخفر الدرك في شقا، لطلب مؤازرته، وإرشاده إلى منزل سليم، وعدم الانتظار إلى صباح اليوم التالي خوفاً من تسريب المعلومات إلى سليم بحضور دورية الأمن اللبناني لتوقيفه، وإفشال المهمة. وقد وضع اللوحة السورية على سيارة البيجو العسكرية اللبنانية، وبدّل هندامه ليشبه أي مواطن في شقا، وانطلق نحو مخفر الدرك ليرشدهم إلى منزل سليم، وطلب الانتظار نصف ساعة لتأمين الدعم المطلوب وأخذ موافقة الرؤساء.

لم ينتظر الضابط، بل توجه برفقة الأمن الجنائي السوري إلى منزل سليم وقرعوا الباب، فسأل أحد عناصر الأمن السوري عما إذا كان هو نفسه سليم، فأقر فوراً باسمه، فقيده الرقيب والعريف اللبنانيان واقتاداه مع بندقية حربية كانت إلى جانبه، إلى سيارة دورية الأمن الجنائي السوري وانطلقلوا به إلى مكتب القائد السوري، عبد الجليل، وأطلعوه على توقيف سليم وشكروا له مساعدته. فاستهجن سرعة إقدام الملازم الأول على توقيفه فوراً بعد أن كان وعده بالحضور في اليوم التالي. نصحهم القائد السوري بسلوك طرق فرعية خوفاً من تصدي أنصار سليم للدورية وتحريره.

عمل الملازم الأول والدوريات على سلوك الطريق الرئيسية نحو دمشق، والتي قدموا عبرها إلى شقا خلافاً لإرشادات العقيد السوري، حيث لم يرتح الملازم الأول بدري لتبديل المسالك!! وقد وصلوا إلى مقر قيادة الأمن الجنائي بعد ظهر اليوم عينه. لكن القيادة السورية رفضت تسليم سليم، المطلوب بمذكرات جنائية إلى الملازم الأول بحجة مراجعة القيادة السورية وأخذ موافقتها.

ذهل المطلوب سليم من أسلوب الاستخبارات الدقيق الذي اعتمده التحري والتخفي بدقة وأدى إلى توقيفه، هو الذي يحتاط جداً ويتحلى باليقظة الدائمة. ولم ينفعه التخفي بالعمل الفدائي وصداقاته مع النافذين هناك للهرب من الملاحقة.

عادت الدورية إلى بيرو ت بعد يومين من دون سليم، حيث لم توافق السلطات السورية على سوقه إلى لبنان لمحاكمته وفقا للأصول، ولعدم وجود اتفاقية تبادل المطلوبين بين البلدين.

بدأت معاملات استرداده بواسطة النيابة العامة التمييزية، لكن ذلك تأخر ولم توافق الإدارة السورية على تسليمه إلى القضاء اللبناني لتجري محاكمته وفق الأصول لأسباب شتى!!

بقى سليم موقوفاً حوالى أربع سنوات في سوريا، ثم أطلق سراحه نتيجة تدخلات سياسية، وعاش في جبل العرب سنوات طويلة حتى صدور قانون العفو في لبنان، فعاد أواسط الثمانينيات من القرن العشرين، وسكن في إحدى قرى الشوف مع عائلته متيقظاً من ردات فعل ذوي الضحيتين.

كان لشجاعة الملازم الأول وحسن تخطيطه وسرعة تحركه بتوقيف القاتل، الأثر الهام في تهدئة أهالي الضحايا الذين تركوا للقضاء اللبناني والسوري تحصيل حقهم من الجاني. وقد عملت الحكومة اللبنانية الكثير لاسترداد سليم لكن من دون جدوى.

أصدر المدير العام لقوى الأمن الداخلى تنويها بعمل الملازم الأول بدري الغزال آمر مفرزة بعبدا الجنائية ودوريته منوهاً:

"ضابط نشيط وشجاع، كلف بملاحقة وتوقيف مجرم خطر فار إلى خارج الأراضي اللبنانية ومتهم بجرائم قتل وسلب وسرقة، فاتخذ من التدابير الذكية والدقيقة ما مكنه من معرفة مقره وتوقيفه بمعاونة سلطات البلد الذي عاش فيه، مدلَّلاً بذلك على اندفاع وإخلاص حَرِيّين بالتقدير".

كما مُنح الملازم الأول بدري الغزال وسام الاستحقاق اللبناني من الدرجة الثالثة من رئيس الجمهورية، بصورة استثنائية، تقديراً لشجاعته وبراعته بملاحقة المجرمين اللبنانيين ولو كانوا خارج الأراضي اللبنانية.

كانت الشرطة القضائية في العام 1968 الجهاز الأوحد الذي يعمل كضابطة عدلية متخصصة بملاحقة المجرمين، ولديها الباع الطويل في كشف أكثر الجرائم تعقيداً وخطورة، وغنية بالخبرات والمعلومات، ما مكنها من كسب ثقة المواطنين وقضاة العدلية. فخاف منها الأشرار وركن إليها صاحب الحق والضحية للنيل من الجناة، في وقت لم تكن تكنولوجيا المعلومات قد ظهرت، ولا المخصصات السرية قد بدأت لدفع رواتب المخبرين الذين كانوا يُقبلون لتقديم المعلومات إلى التحري بضمانة عدم كشف هويتهم وحمايتهم وخدمة الأمن الشرعي. فتفوقت الشرطة القضائية، وكانت أجهزة الأمن الشرعية بعيدة عن نفوذ السياسين والأحزاب الذين كانوا في خدمة الشعبة الثانية في الجيش، وجهازي الأمن العام والأمن الداخلي. وكانت مصلحة لبنان تسمو فوق مصلحة الطوائف والأحزاب. فنما الشعور بالمواطنية، وترسخ مفهوم الولاء للبنان. وانتشرت هيبة الدولة في حينها. فهل تعود تلك الأيام ونرتقي في عمل الأجهزة الأمنية المجهزة بأفضل التكنولوجيا وأذكى العناصر والميزانيات الوافرة.. من التبعية للسياسيين وقادة الأحزاب وزعماء الطوائف، إلى التبعية والولاء للبنان الواحد؟

قائد سابق للشرطة القضائية 

عرمون في 6-1-2018. 



الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم