الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الغرب يدعو إلى العيش ببطء... "عقبالنا"!

المصدر: "النهار
هنادي الديري
هنادي الديري https://twitter.com/Hanadieldiri
الغرب يدعو إلى العيش ببطء... "عقبالنا"!
الغرب يدعو إلى العيش ببطء... "عقبالنا"!
A+ A-

راقبتهُ لأيام طويلة وأعترف بأنني أصبتُ بالذُهول لقدرته على الاستمتاع بكل لحظة وتحويلها تالياً قصّة كاملة أو مشهداً مُنفرداً يتفتّح و"يَزدهر" تماماً كالوردة، في الوقت المُناسب، وبانسيابيّة تَفتح الطريق للمشاهد الأخرى في فيلم حياتِه الزاخرة باللحظات.

وفجأة شعرتُ بالقليل من الحزن لأنني سمحتُ للحياة العصريّة بأن تُحوّلني آلة مُتعدّدة المهمات تقوم بواجباتها بسرعة هائلة، بيد أنها تفتقد إلى الشعور بالسعادة.

وأبي، الثمانيني، "يتلذّذ" بالحياة، لا بل يعيش عشرات الحيوات في اليوم الواحد، والمُفارقة بيننا أنه يعيشها ببطء وهدوء وسكينة بحيث تتحوّل اللحظات فصولاً رائعة ولم لا حيوات كاملة أحياناً، وأنا ألهَث بفعل مسؤولياتي التي لا تنتهي وأشعر أحياناً وكأنني على وشك أن أصاب بنوبة قلبيّة لأنني أقوم بعشرات المهمات في الوقت عينه خوفاً من أن يفوتني أي شيء من الحياة... ومع ذلك، يُخيّل إليّ بأنني في الواقع، لا أعيش.


وأبي (الزميل الياس الديري)، ابن الـ80، يكتب يوميّاً مقالته السياسيّة، ويعمل على إنهاء منزل أحلامه الأقرب إلى قصر ينتمي في المُخيّلة لا في الواقع، ويُتمّم مسؤولياته يومياً على أكمل وجه، ولكنه يعيش كل لحظة وكأن لا شيء أبعد منها.

يأخذ كل وقته ليُحضّر وجبة الفُطور والعشاء، ولا يسمح لأحد أن يُساعده في التحضير، ويمضغ كل "لقمة" وكأن الرأي العام ينتظر تعليقه حول نَكهة الطعام ومَلمسه، ويختار يوميّاً أجمل ربطة عنق تليق بالبَدلة التي سيرتديها ليذهب إلى الجريدة بكامل أناقته الخالية من الخطأ، ويتحدث ببطء ويقرأ يومياً ويدفع فواتيره على الوقت، ولا يفوته أي واجب اجتماعيّ.

وفي ساعات الليل المُتأخرة يتابع الأخبار العالميّة بتمعّن شديد، ويضحك لا بل يَسخر من إدمان الجيل الجديد على التكنولوجيا مُشدّداً على جمال الحياة بعيداً من هذا الإيقاع المجنون الذي بتنا نحياه طقسنا اليوميّ... فيما أنا ابنة الـ45، ألهث خلف مسؤولياتي بسرعة مُرعبة ومُقلقة تكاد تشعرني بأن أبي تفوّق عليّ في ما يتعلّق بلعبة الحياة وأصولها... وهو يأخذ "شي عشر ساعات" ليختار "الكرافات" التي تتوافق مع "بدلة اليوم"!

أبي "يتفنّن" بالحياة التي روّضها من خلال قدرته على التحكّم بالإيقاع الذي يتوسّله أسلوباً يُراقص من خلاله أيامه.



اليوم، أمست السُرعة لغة التواصل في ما بيننا، والغَرب أعلن أخيراً ثورة على هذا الإيقاع "يالّلي عم بيهدّ الإنسان هدّ"، وها هو يَدعو إلى نمط حياة أكثر بطئاً وأكثر هدوءاً لتتفوّق النوعيّة على الكميّة، بمعنى أن نحتفل بكل ما هو مُهم عوض الركض من نشاط إلى آخر وكأن السعادة تدور حول عدد الأنشطة التي نقوم بها في اليوم الواحد.

أعلن الغرب، وبعد سنوات طويلة من الغور في دراسة الكآبة وأسبابها، أن الذين يتفاخرون بكونهم دائمي الانشغالات ليسوا بالضرورة أكثر سعادةً من الذين يأخذون وقتهم في الانتقال من شيء إلى آخر، ولكن الأكيد أنهم ربما كانوا أكثر عرضة للمرض والانتكاسات النفسيّة.



The slow Movement (الحركة التدي تدعو إلى العيش ببطء) لا تعني بالضرورة أن نتحرك كالسلحفاة بحيث يشعر من حولنا برغبة شديدة في قتلنا! وأنصار هذه الحركة المُتنامية يؤيدون النوعية كما يُشدّدون على ضرورة تبنّي الإيقاع المناسب لكل موقف نجد أنفسنا فيه.

إنها حالة ذهنيّة أكثر منها إنعكاسات خارجيّة في تصرّفاتنا، بمعنى أن لها علاقة بتغيير تفكيرنا وطريقة تعاملنا مع كل ما يحدث معنا، بحيث تتبدّل من "كل شي طوارئ"، إلى "كلّو بينحل برواق".

"أبناء" هذه الحركة التي يبدو أن أبي من أنصارها، يدعون الإنسان العصريّ إلى تذوّق اللحظات بكل إنفعالاتها، وعدم إدمان التكنولوجيا بحيث نعيش أيامنا بخوف من أن يفوتنا أي شيء في مواقع التواصل الإجتماعيّ. هم يدعون أيضاً إلى تناول الطعام بلذّة مُطلقة، وإلى عيش كل علاقاتنا الإجتماعيّة والأخرى الأكثر حميميّة بسعادة مُطلقة ومن دون أن "نكون ملهيّين بشي ألف شغلة بالوقت نفسه"، كما يدعون إلى التعامل مع الحياة وكأنها نُزهة ومن هذا المنطلق هي ليست سباقاً، و"لاحقين نقعد بالتابوت"، ويدعون إلى خلق حياة جيّدة لأنفسنا والآخرين.



الحياة هي اللحظة، والسعادة الحقيقيّة هي في الاحتفال بالتفاصيل الصغيرة "اللذيذة المذاق"، والسعادة بحسب أنصار هذه الحركة هي إغواء بطيء، وهذا الإغواء ينطبق على كل أجزاء حياتنا.

وفي حين انطلقت الشرارة الاولى لهذه الحركة في العام 1986 في إيطاليا على وجه التحديد، عندما اعترض الناشط السياسي كارلو بيتريني على بناء مطعم "ماكدونالدز" في "بياتزا دي سبانيا" في روما، مُشدّداً على أهمية احترام التقاليد المحليّة للطعام وعدم استهلاك الـ"فاست فود" بل تعزيز دور الأطعمة المحليّة، سُرعان ما انتقلت الحركة إلى كل أجزاء الحياة، من الموضة إلى كيفيّة عيشنا حياتنا اليوميّة، إلى التصاميم، إلى الهندسة.

العالم اليوم بحاجة ماسّة إلى الهدوء وإلى الكياسة، في وقت يغرق فيه "بالغليان المَحموم".

التباطؤ بحكمة يتحوّل يوماً فآخر لحن الحياة العصريّة التي تُعاني الضجيج وعدم التناغُم.

الاستغراق في التفكير الحالِم أو مُراقبة "الرايح والجايي" إذا "علقنا بعجقة"، عوض مُتابعة آخر المُستجدّات "البلا طعمة" في مواقع التواصل الإجتماعيّ؟ لم لا!

السماح للملل بتحريضنا على ابتكار شتى الوسائل الخلاقة لنتسلّى عوض الشعور بما يُشبه الإنهيار "إذا داهمتنا شي لحظة فاضية ما عملنا فيها شي"؟ لم لا!

أخذ وقتنا في "مزمزة" فنجان القهوة، عوض "قذفه" كاملاً في الفم؟ لم لا!

الابتعاد أحياناً عن مواقع التواصل الاجتماعي وإن فاتتنا "خبريّات" مصيريّة تأتي على شكل، صورة فلانة في حمام المطعم الفلاني، ورأي فلان السياسي "الخنفشوري"؟ لم لا!



أبي، ابن الـ80، عاش مراحل حياته كاملةً..."عقبال العايزين"... و"بيناتنا، انا عايزة"!

                                                     [email protected]

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم