المقصود بابن حواء هنا، هو انا وليس احدا غيري. لا استخدم الكلمة بهدف الإثارة، بل لأنها الأكثر تعبيرا عما فعلت، او عما لم أفعل.
تخيلوا معي المشهد .
اقود سيارتي مسرعا بعض الشيء للوصول على الوقت للتدريب في ورشة عمل حول الحوار الاجتماعي، في مشروع يموله الاتحاد الاوروبي ويشارك فيه الأطراف الثلاثة، الدولة، العمال وأصحاب العمل. المشروع هو في اطار اوسع يهدف الى تعزيز العدالة الاجتماعية في لبنان .
في طريقي إلى الفندق حيث تنظَّم الورشة، وعلى تقاطع طرق، تطل أمامي بلباس اسود، امرأة سبعينية على وجهها ملامح البؤس. تمشي "موهولة" بين السيارات المزدحمة والمسرعة، رافعة يديها كأنها تصرخ "النجدة".
واضحٌ ان المرأة تطلب بإلحاح مساعدة مالية، اي أنها "تتسول" كما تعودنا ان نقول. مررت من أمامها مسرعا بعض الشيء كما هي بقية السيارات في هذا التقاطع الذي لا شرطة فيه لتنظيم السير .
لم اتوقف، لكن قلبي كاد أن يتوقف .
الحزن والقلق الباديان على وجه هذه المرأة، حركتها المتوترة في كل الاتجاهات، سواد لباسها: مشهد هز كياني، وراح يرافقني وانا ابتعد لالتحق بالورشة التي نظمتُها ووضعت من ضمن مواضيعها، مشروع التقاعد والحماية الاجتماعية، الذي يناقش هذه الأيام في إحدى لجان مجلس النواب.
أتريد ان تساهم في توعية الاخرين على اهمية اقرار قانون للتقاعد والحماية الاجتماعية، وتترك هذه المرأة المسنّة وحيدة على قارعة الطريق؟
لماذا لم تتوقف وتمد إليها يد العون؟
سؤال رافقني طوال هذا اليوم وبعده، على رغم انشغالي وتركيزي على المهام الكثيرة التي كنت مكلفاً القيام بها .
"عذرك معك"، كان يمكن ان اجيب نفسي: زحمة سير وسيارات مسرعة، فكيف اتوقف؟ حتى القدرة على سحب بعض المال بسرعة من جيبي وإعطائه للمرأة كانت صعبة جدا .
لكن ألم يكن بامكانك التوقف في مكان ما الى جانب الطريق ولو بعيد بعض الشيء، ومن ثم العودة إلى حيث المرأة ومساعدتها؟
هنا ايضا كان يمكن ان اردّ على نفسي أنني بالفعل كنت مستعجلا ومتأخرا على موعد الورشة، بسبب الزحمة التي رافقتني منذ مغادرتي منزلي .
وماذا يمكن ان يحصل اذا وصلت متأخرا بعض الشيء؟
هل في ذلك إهانة لموقعك المهني؟ هل كان المشاركون، الذين يصلون في معظمهم متأخرين، سيتذمرون وهم ينتظرونك في فندق فخم تتوفر فيه جميع وسائل الراحة والخدمات؟
كلها تساؤلات وردود لم اتوقف عندها طويلا في الواقع. ما كان يشغلني هو سؤال أهم وأخطر على المستوى الإنساني: امام حاجة المرأة الأكيدة والملحّة لمساعدتك، لماذا لم تضرب بعرض الحائط كل اعتباراتك، وتهب إلى نجدتها؟ اين اصبحت نخوتك الانسانية؟ ما الذي جرى لأولوياتك؟
لا بد ان معظمنا قد واجه مثل هذه الحال: منذ ان نصحو حتى ننام، نجدنا نسير مسرعين مستعجلين على طريق يومي شبه وحيد، ننتبه احيانا او لا ننتبه إلى أولوياتنا وقيمنا المرمية على القارعة.
المسألة أكثر إيلاما لي: فالطريق التي اسلكها يوميا ومهنيا، هي كما ازعم، طريق "العدالة الاجتماعية"، واذا بي أمر "مرور الكرام" وبعجلة ، امام حالة بؤس من لحم ودم !
كأن "القضية"، التي أساسها معاناة إنسانية حقيقية، تصبح مستقلة عن أساسها وتتحول الى هدف بحد ذاته، لا بل تحجب حالات ملموسة تجسد هذه المعاناة، ولا تبالي في أحيان كثيرة بها.
الأمثلة كثيرة حول "مناضلين" لا يكترثون في ممارساتهم اليومية او في مواقفهم "الاستراتيجية" لمشاعر أصحاب "القضية" التي يناضلون من أجلها، او لحياة او لمصلحتهم.
افكر في هؤلاء الذين يرفعون الصوت عاليا دعما لـ"قضية" القدس وفلسطين، ولا يبالون بأوضاع اللاجئين الفلسطينيين وبحقوقهم كبشر .
افكر في "المناضلين اليساريين" الذين يستتبعون مصائر العمال لخدمة الاستبداد، تحت شعار محاربة الإمبريالية .
ازعم انني لا انتمي إلى هؤلاء المتلطين وراء القضايا الكبرى لإخفاء عقدهم أو حقارتاهم الشخصية، واعرف انني اقسو على نفسي من خلال مقارنة ما حصل معي بممارساتهم
هدفي من هذه المقارنة، هو الدفع بفكرتي الى أقصى معانيها: الحاجة الى استنهاض "النخوة الانسانية" اذا صح التعبير، والعودة الى الاستجابة الحسية لمتطلبات المعاناة الإنسانية الملموسة، وهو ما يستدعي نوعا من "القطع الجذري" مع المسارات التي نسلكها يوميا بعجلة وانتظام، وبدون القدرة على التوقف .
تخيلوا معي للحظة، أنني لم اتابع سيري، بل توقفت امام هذه المرأة البائسة، انا والسائقين الآخرين، وقدمنا لها ما تحتاجه من اكل و دفىء وفنجان قهوة وسيجارة... وابتسامة .
لا اعرف لماذا، وكنموذج عن هذا "القطع الجذري" في سلوكنا الانساني، تذكرت مثال يسوع عن هذا الراعي، الذي ترك نعاجه التسعة والتسعين في البرية، ليذهب ويفتش عن النعجة الضائعة.
(خبير وناشط)