الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

"رفاعة الطهطاوي والغرب: بواكير الحداثة أم بوادر الإخفاق؟" لريما لبان: لحظات الارتباك بين الشرق والغرب

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
"رفاعة الطهطاوي والغرب: بواكير الحداثة أم بوادر الإخفاق؟" لريما لبان: لحظات الارتباك بين الشرق والغرب
"رفاعة الطهطاوي والغرب: بواكير الحداثة أم بوادر الإخفاق؟" لريما لبان: لحظات الارتباك بين الشرق والغرب
A+ A-

"رفاعة الطهطاوي والغرب: بواكير الحداثة أم بوادر الإخفاق" (صدر عن دار نيلسون- تشرين الثاني 2017) قراءةٌ جديدة لريما لبان، تسائل المفارقات الأولى في احتكاك الإسلام بأوروبا، مطلعَ القرن التاسع عشر، وتصور لحظات الارتباك بين شرقٍ مُثقلٍ بتراثه الفقهي- الأخلاقي، وغربٍ يسود بعلومه الوضعية وسياسته العادلة، يعضده ازدهارٌ اقتصادي وتأنق ثقافي مطردان. وقد ركزت هذه القراءة على بذور الفشل المنغرسة في بيئة الجمود، لفهم العجز عن إجراء قطيعة معرفية مع التراث. كما اقترحت الباحثة تأويلاً معمقًا لجذور هذه المفارقات، وبعضُ آثارها لم يُمح إلى الآن، فَتحفرُ، كما عرَّف ميشال فوكو الحفر، في الطبقات الأولى التي ترسبت فيها بوادر الاختلال، بين واقع طامحٍ إلى التقدم وفكرٍ منشدٍّ إلى خطاب ماضوي، وهو ذات الاختلال الذي يفسر ليس فقط تناقضات الطهطاوي في زمنه، بل والعديد من تناقضات راهننا المأزوم.  

ومهدت الأكاديمية لبان لآراء الطهطاوي بعرضٍ مطول في المقدمة، لآراء رائدَيْن سبقاه، وهما عبد الرحمن الجبرتي (1753- 1825) ونقولا التُرك (1763- 1828). وهو تمهيدٌ وضع الكتابَ في سياقه الثقافي وأبان فيه عن تناسل الأفكار بعضها من بعض. فلم يكن خطاب الطهطاوي، وما أثقله من مفارقاتٍ، خطابًا طارئاً، من عدمٍ نَشَأَ، بل انحدر من بيئة ثقافية، استشعرت عجز النظام الفكري التقليدي عن استيعاب بذور الحداثة، ومظاهر التجديد، المادية والمفهومية.

وقد وُفقت الباحثة في اختيارها موقفيْن من تلك البيئة متقابليْن: الأول، دافع عنه المصري عبد الرحمن الجَبَرتي، رافضًا عنف الحملة الفرنسية، وما تركته من ندوب الانحلال، حين فرضت نفسها احتلالاً واستحالت غزوًا، وقد انبنى رفضه على أسسٍ دينية واضحة. والثاني، عبَّر عنه اللبناني نقولا التُرك، وهو إلى الانفتاح أقرب حيث نادى بالشجاعة في فَهم الآخر (الغرب)، والاستفادة من قيمه التجديدية، للنهوض من سبات الفِكر واستبداد الساسة. فكان الموقفان أرضية أولى، تدرَّج في مسالكها الوعرة فكرُ الطهطاوي توفيقًا بين أطرافها المتنازعة.

تنازعها ذلك الذي تجلى في تداخل الدين والمدنيَّة، وهي المسألة التي باطنت أعمال الطهطاوي بأسرها، دون أن تبوح باسمها، لأنها خاتلته بدءًا، وكادت أن تخدع الباحثة عَطفًا. إذ يدور خطاب النهضة الأولي على العلمانية، في معناها القاطع، الذي تبلور في عصر الأنوار: اعتماد العقل البشري لإنتاج القيم الحاكمة في المجتمع والسياسة، على أن يترك أمرُ الإيمان إلى الضمائر. ولذلك، تصدى الطهطاوي، بحماسة المصلحين، إلى قضية القوانين، وفصل السلطات الثلاث، ومصادر التشريع، ومنابع شرعية الحكم... غير أنه، في تحديدها، تردد بين الاتكاء على تراث الفقه وأصوله، وما شُيِّدَ عليهما من قيم العدل، ضمانًا للعمران البشري، كما حدده ابن خلدون، وبين الازدهار الاقتصادي، الناشئ في كنف الجمهورية. وشرطُ قيامها القطع مع الإقطاع، وتراثه الملكي وبطانته الدينية، وجلها يرسخ تغريب الإنسان، ولا يحرره.

وللانفكاك من ورطة التغريب هذه، عبر "العلمانية" مسلكًا جديدًا يصفه لمحاوريه من الأزهريين، اقتبس الطهطاوي - كما بَيَّنته الأستاذة لبان- مفرداتٍ من قاموس المعتزلة، واستعار منافحَتهم عن التحسين والتقبيح العقليِيْن. وببراعة فائقة، عاد إلى براهين علم الكلام، كي يوفق بين القيم، رغم تباعد مراجعها، ويدلل أنَّ العقل والعدل والحرية هي من كونيِّ التطلعات، فلا غضاضة في اقتباسها. وهنا مَكمن الإخفاق وبوادره القاتلة في خطابه الذي استحال "مواءمة مستحيلة" وتوفيقًا، جُله تلفيقٌ، يقرأ الحاضرَ الغربي بعيون الماضي الديني، ويُؤَول مؤسسات الجمهورية الفرنسية عبر شبكة مفاهيم الخلافة الإسلامية.   

وتتالت بعد ذلك عروضُ المصلح الأزهري متراوحةً بين ثقافتيْن: شرقيَّة وغربيَّة، استقصتها الدكتورة ريما لبان، في صبر وتؤدة، لتشكل مادة مرتبة، تُشبه متنًا اثنوغرافيا لمدنية باريس، منظورًا إليها بعيونٍ إسلامية، فاعتنى بالأنظمة الرمزية واللغوية لحضارة "الإفرنج"، بعد أن تتبعَ نظامَهم السياسي والاقتصادي. وهذا المتن الذي نظمته الأستاذة لبان، مُرتبًا حسب محاورَ، مستقصًى في كل بابٍ من آثار الطهطاوي الكاملة، لمما يضفي على عملها قيمة توثيقية كبرى: فقد اقتصر الباحثون قبلها على تعداد آراء الطهطاوي، يستقونها من كتاب واحدٍ، ولكنها عدلت عن طريقتهم واشتغلت على ما يسميه بيار بورديو "الحقل الثقافي"، فعرضت الحقول حسب تراتبيتها التفاضلية في فكر الطهطاوي: القانون، فالاقتصاد، فالعلوم، ثم مظاهر الاجتماع ووضعية المرأة وحالة اللغة...عاكسةً بهذا الترتيب مجالات الإصلاح التي انكبَّ عليها مفكرو النهضة بعده. ثم فصّلت، في كل حقل، مفارقات الطهطاوي، وتنازعات الرؤيتَيْن في عقله ووجدانه، وقد انقسم بين الانتماء إلى مرجعية الفكر الديني، والرغبة في اقتباس المثال الغربي، نشدانًا للتقدم اللائق "بخير أمة".

وكان لقضية المرأة- والباحثة امرأة ملتزمة بقضايا وطنها وأمتها- شأنٌ كبير في تفكير الطهطاوي كما في تحاليلها، فجهدت في تفكيك الصور النمطية التي شاعت عن الغربيات، وحللت أسباب تخلف هذه النظرة الذكورية، إذ من آثارها تخلف الوضع القانوني والاجتماعي لنصف المجتمع ومُربية الأجيال فيه. كان الفصل الخامس المخصص للمرأة جامعًا بين طرافة المحتوى وحرقة أن نبصر عِظمَ المسافة التي تفصل الخطاب العربي عن مكانة المرأة عنصرًا فاعلا في الحضارة.

ولم تغفل الباحثة قضايا تجديد لغة الضاد، حيث درست وعيَ الطهطاوي ليس فقط لعجز العربية، المنحدرة من البلاغة المهترئة، عن صياغة المفاهيم المبتكرة التي تحيل إلى مظاهر الحداثة وما يتصل منها بالاقتصاد والبنوك والبريد والمصانع والمسارح، وإنما إدراكه النقدي لضرورات تجديد أبنية اللغة، المعجمية والاستعارية، تأكيدًا على حتمية إحيائها لتضطلع بالتوليد المعجمي، وتسمي أشياء العالم الجديد الذي غدا يطوق الوعي من كل جانبٍ.

وهكذا، فهذه المادة الثرية بتضاربها، والتي أفاضت الدكتورة لبان في استعراضها، تحمل في طياتها بواكير النهضة، بما هي تطلعٌ للخروج من سجن انحطاط العصر الوسيط، للدخول إلى عتبات التاريخ الحديث. وتحمل، في الوقت عينه، بوادر الإخفاق ومحاذير التوفيق الذي بات "جمعًا بين الماء والنار"، على حد تعبير الناشر سليمان بختي في تصديره الكتاب.

توقّع ريما لبان كتابها في السابع من كانون الأول 2017 في معرض الكتاب ببيروت، من الساعة السادسة وحتى الثامنة مساء.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم