الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

"السياسة" كشرعنة للعنف

غسان صليبي- باحث وناشط
"السياسة" كشرعنة للعنف
"السياسة" كشرعنة للعنف
A+ A-

أميل يوماً بعد يوم، إلى التوقف نهائياً عن الكتابة في "السياسة". ليس فقط لإحساسي المتنامي، بعدم الجدوى "السياسية" من الكتابة. وليس فقط لأن الكتابة، وبحكم أنها تدفعني إلى التعمق في ما أفكر فيه، وتجعلني أتلمس لمس اليد والجبين، سماكة الجدار الذي أخبط رأسي فيه .فالأخطر والاكثر ايلاماً من ذلك كله، اني أكاد أصبح جزءاً من اللعبة القذرة، التي تجعل من العنف "سياسة". 

فهذه "اللاجدوى السياسية" من الكتابة، وهذا "الجدار" السميك الذي أضرب به رأسي، انما سببهما الاول والمباشر، ان الفاعل الأكبر في التاريخ السياسي المعاصر، لمعظم بلدان المنطقة العربية، هو العنف داخل البلدان ومن خارجها .

العنف يحدد المنتصر والخاسر في "السياسة"، يقرر بنود الاتفاق "السياسي"، يوزع حجم النفوذ والمسؤوليات الوطنية، ويضع قواعد اللعبة "السياسية" وشروطها .

"السياسة" تأتي متأخرة وعند الطلب :

لترفع الركام وتنظم الخراب، لتُلبس التوحش قناع الحضارة، ولتضفي على العنف الشرعية المجتمعية .

كان كلاوسفيتز يقول ان الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل اخرى. الاصح القول في حالتنا العربية ان السياسة هي استمرار للحرب بوسائل اخرى .

مهمة شرعنة العنف يتولاها "الكلام في السياسة"، بألسنة السياسيين او العاملين في خدمتهم، من على المنابر، في المؤسسات الدستورية وفي الاعلام، المحلي والاقليمي والدولي .

ابتكر الفكر الماركسي مفهوم "الإيديولوجيا المهيمنة" التي تنتجها الطبقة المهيمنة وتعممها على المجتمع ككل، من خلال المؤسسات القائمة التي تسيطر عليها .وظيفة هذه الإيديولوجيا هي التعمية على علاقات الاستغلال والهيمنة في العائلة والمدرسة والشركة والمصنع والمجتمع والسياسة والاعلام .

هكذا تفعل ايضا الجهة التي تنتصر "سياسيا" من خلال العنف الذي استخدمته واخضعت من خلاله المجتمع .

لكن مهمة شرعنة العنف لا تقتصر على المنتصرين واتباعهم، بل يتولاها ايضا الخصوم والناس العاديون، وإن بطريقة لاواعية أحيانا . فبالإضافة إلى الخوف المباشر من العنف ومن الحاجة الى حماية "المصالح" التي يتهددها هذا العنف في حال معارضته أو معارضة نتائجه، هناك نزعة بشرية سيكولوجية تساهم في الخضوع للأمر الواقع وتبريره .علم النفس التحليلي يسمي هذه النزعة "التبرير" وهو آلية دفاعية لا واعية بحسب فرويد، يبرر ويفسر من خلالها الفرد، بطريقة "منطقية"، سلوكياته واحاسيسه المثيرة للجدل، وذلك تفاديا لاعطاء التفسيرات الحقيقية التي تشعره بالانزعاج وعدم الراحة .

تتم العملية على مرحلتين: في المرحلة الاولى يتخذ الفرد قراراً او يُطلق احكاماً او يمارس سلوكاً لسبب معروف او غير معروف؛ وفي المرحلة الثانية يبلور تفسيرا "منطقيا" يريحه نفسيا في محاولة لتبرير الموقف او الفعل بعد حدوثه .

يلجأ الفرد إلى عملية "التبرير" عندما يواجه ضغوطا خارجية او داخلية نفسية، تلزمه اتخاذ مواقف لا يرضى عنها عادة .تتزايد هذه النزعة في ظروف العنف والقمع التي يتعرض لها البشر، فيُكثرون "التبريرات السياسية المنطقية" التي يفسرون بواسطتها مواقفهم وسلوكياتهم التي تعكس خضوعهم لمستلزمات العنف الذي يحيط بهم. تخلو هذه "التبريرات" في طبيعة الحال من اي إشارة إلى هذا العنف كسبب لهذه المواقف والسلوكيات. وتساهم هذه "التبريرات" بشكل كبير في عملية شرعنة العنف وتحوله إلى "سياسة "يجري التداول بها كمحرك لعلاقات السلطة .

لعلها ليست مصادفة ان يتكاثر عدد المحللين السياسيين "الاستراتيجيين" القادمين من الخدمة العسكرية، كدلالة ربما على تماهي السياسة مع الحرب. ولعل ذلك يكون حافزا للمحللين السياسيين القادمين من المجتمع المدني لمقاربة "السياسة" كعملية شرعنة للعنف، بدل ان يتحولوا أداة فكرية لطمس علاقات الهيمنة في المجتمع .

من العار على المرء، ومن المثير للغضب، ومن المؤلم، وجوديا، ان يدرك وان يقبل، ان يتحول مصيره، الى دمية يحركها العنف فحسب، وان تصبح السياسة، بصفتها إدارة ديموقراطية لشؤون حياتك، مجرد هلوسة طقوسية، امام المعبد الوطني للعنف .

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم