الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

ثورتي السورية

روجيه عوطة
A+ A-

لا يستطيع بشار الأسد أن يهزمها. خلف الثورة السورية، وأمامها طبعاً، تحضر ثوراتنا الخاصة، التي ستدوم، حتى لو ضُربت باليأس في بعض الأحيان، لأنها المدخل الأكثر رسوخاً إلى ذواتنا. في وسع الديكتاتور أن يقتل. هذه حقيقة. لكن لا أحد يقدر على ترميم الساقط منه، وهنا الواقع. ثمة سكوت فوق يده، تحت سلاحه، في سلوكه، صحيح. إلا أن المنتفضين وجهاً لوجهه، لا يخلدون سوى إلى الثورة، التي لا تندلع كجمعٍ واحدٍ، بل تتّقد كمديح للتشظي.


تفرّق شمل الموت الإيديولوجي، الذي كان النظام قد ثبّته أرضاً تحت أقدام السوريين. تشقّق وهبط. لذا، وقعنا على فعل أصلي، يؤلف قاموساً بنفسه، أي "السقوط". علّمتني ثورتي السورية في بدايتها أن أسقط قبل أن أرغب في إسقاط الديكتاتور. فمثلما لا تصقل الرغبة في ممارسة الذات بدون الإنزلاق إلى داخلها، وتحريرها من هاجس التحقيق أو الإشباع، كذلك، لا تُجَلى الثورة بسوى النزول إلى قعرها، وتطليقها من سؤال البديل عن النظام. لا داعي لهذا الإستفهام المضطرب، الذي يشلّ أكثر مما يحرّك. لا داعي. هذا النفي أيضاً، علّمتني إياه ثورتي السورية.


تسييس الموت
يدل السقوط أن الثورة لا أرض لها. فهي خطّت عباراتها الأولى على جدران الطفولة الخفيفة في درعا، ثم انتقلت رقصاً وغناء إلى الشوارع، قبل أن تدخل الأجساد، متغلبةً على الجاذبية. الرصاص أضناها، وأنهكتها القذائف، كما أثقلتها الصواريخ، والبراميل. لكنها لم تتوقف. استخدم البعث سارينه، ظناً منه أنه سينتصر على الخفة بالخفة، ويخنق الناس في صحرائه، أي في أرضه الأصلية، التي تخفي تحت ثوبها الرملي أوسع سجن، وأكبر معتقل.
السوريون تعذّبهم هذه الأرض. وهم عندما ثاروا، رغبوا في الإنتهاء من المقاساة والمكابدة، من خلال تفتيتها، دقّها وإزالتها، كي لا تبقى على كل أحوالها. لا حاجة للأرض بعد الآن، ما دامت وظيفتها، بحسب باشلار، هي توقيف السقوط، أي التعذيب. لا حاجة للأرض، أكانت علامة أمومية، أم إشارة أبوية. الثورة لا تقتل الأب فحسب، بل الأم أيضاً. الإضافة هذه، ذاتية بقدر ما هي تفتيتية، ومن شأنها إطاحة الديكتاتور أينما كان، وأينما حضر.
لا قدرة للذات على الحضور خلال "ثورة" تزعم حماية الأرض، وصون جغرافية عنفها، أو تضاريس هوياتها. من نافل القول إن المحافظة عليها، غالباً ما تجري بتغليفها بأرض أكبر. فالبلد "أمة"، والمجتمع "قطر"، كما أن الأقلوية "علمانية"، والطائفية "قومية" إلخ. تنطوي الأرض البعثية على أروض عديدة، منها ما هو إيديولوجي، ومنها ما هو مفبرك. لا تفتت الثورة السورية أرضاً منبسطة، بل تدكّ الكثير من الأراضي المرفوعة، والمتقاطعة، والمرصوصة بإحكام "الأبد". النظام حاضرٌ عليها، مباشرة، أو بواسطة شبّيحته، وأشباحه، كـ"جبهة النصرة" و"داعش"، الذين يستكملون مهمته الساحقة، حتى لو قاتلوه. لا يمكن الثورة أن تنتصر إن لم تكن كسّارة واقع إيديولوجي، متيحة ًللذوات أن تنطلق في ثوراتها الخصوصية، التي لا تتقيد بسوى فعل السقوط.
لا تكون الثورة على حالها المتغيرة إن استبدلت الهبوط بالصيانة. يستحيل السقوط مقابل الأرض، حتى تتهشم، بوصفها مقولة خطابية. لا بد أن تندرج الأفعال الثورية في سياقات سياسية، تصنّعها بنفسها. يجري تسييس السقوط، وتسييس التكسير، كي يبقى الفعلان من أفعال الثورة، لا المخلّص. الثورة ليست سبيل نجاة، ولا سؤالاً عن السلامة، بل "سقوط" في ورطة الواقع. لهذا السبب بالذات، تستمر ثورتي السورية.
الثورة موت إذاً. فهي تنفي من أجل التخطي، وبهدف التجاوز. كما أنها تمتّن علاقتنا بالموت، التي من الممكن، في ضوئها، قياس قوة إسقاط النظام، وخطابه الذي يفبرك موتاً إيديولوجياً، يعبّر الثبات عنه، ويبلغ ذروته في الإستشهاد. الثورة تنفي "الموت كسبيل"، وتعارض "الموت في سبيل"، لأنها تبحث عن عيشٍ، لا الهجس في بدايته، أو في نهايته. ما تفعله السلطة البعثية أنها تجمّد الحياة، وتكشف عن عدمها. تعتقل الموت بهذين التجميد والكشف. لكن الثورة تحرره من عقال "الأبد"، ليواصل حضوره بين السوريين، الذين في أحد الأيام رفعوا لافتةً، كتبوا عليها: لقد ملّ الموت منا.
في كل مرة، يودّعون واحداً منهم، يحاول الموت أن يكون أكثر عدلاً معهم. هو أيضاً، لا يزال في صدد إدراك ذاته، التي كان النظام قد عطلها على طول عقود من الإستبداد. هذا الإدراك يحتاج إلى وقت، ومكان، وطبعاً مواضيع. لذا، من البديهي وصفه بالعسير. الوقت ينزف دماً، والمكان مخرّب، أما المواضيع، فمعظمها يئنّ، حتى لتبدو كأنها تحتضر بلا خاتمة. على رغم الألم الشاسع، يرغب الموت في إسقاط صورته المفبركة، وشبحه الإيديولوجي، أي أنه يرغب في إسقاط "الموت الأبدي"، الذي يؤلف أرض البعث. هناك، حيث نام ألوف الأطفال، وكان نومهم ساخناً، بسبب النحر والقصف والإختناق، فوضعوا بينهم الكثير من قطع الثلج. لا كي تبرد جثثهم، بل كي تذوب الأرض. بهذه الطريقة، أنظر إلى ثورتي السورية.


ارتعاشات الخفاء
لقد كان المشهد شديد القتامة قبل آذار 2011. الثورة في تونس، ومن ثم مصر، ألحّت على سؤال الحرية في سوريا. إلا أن الإجابة لم تتأخر، وكانت على سبيل استفهامات عديدة، الأكثر ضرورة ًبينها: ماذا حصل؟ هذا الإستفهام، سرعان ما تغير إلى: هل سيسقط؟ التظاهرات الأولى في درعا وحماة وحمص أدت إلى إضطراب ذواتنا، وإحساسها بأن الثقل الذي لطالما أرهق اللغة، بدأ بالإختفاء. الرغبة في الحرية يومها، في لبنان أم سوريا، سبقت الحرية نفسها، أي أن الرغبة أصبحت موضوع نفسها. من هذا التحول، ولد الإرتعاش.
الارتعاش، على قول سيوران، شرط التمتع بالحرية، التي بدت لذتها كأنها تكمن في وقت الرنوّ إليها، وليس عند تحقيقها. اندلاع الثورة، ومشاهدة تمثلاتها في اللافتات، والأغاني، والمقاومة الشعبية، كانا كافيين للتأكد أن الديكتاتور قد انهزم. "متى كان في مقدورنا التحدث ضد الأسد؟"، سألت صديقتي، قبل أن تكمل بأنها ستظل تروي عن استبداده، كي تسقطه من الكلام. الإرتعاش الأول كان لغوياً. ليس لأن "جدار الصمت" قد هبط، بل لأن اللغة لم تعد مقفلةً.
الثورة في سوريا لغوية بامتياز. لم يعد من الممكن قراءة علاماتها بالطريقة نفسها التي كانت تثبت بها قبل آذار 2011، ولا سيما أن تلك العبارات المتروكة على جدار المدرسة الدرعاوية استحالت آثاراً قاسية على الجلود. لذا، لا يمكن قراءة لغة الثورة بسوى توسيط الجسد بينها وبين الواقع. تلك الشجيرة الخضراء التي تنبت من جثةٍ في إحدى لوحات الفنان وسام الجزائري، هي جذر لغة جديدة، ترتفع فوق الجسد، الذي يفصلها عن الواقع، وليس عن "الأرض". الشجيرة نفسها تصير طائرة من ورق في لوحةٍ لريم يسوف. تظهر اللغة كأنها تقلع من الجثة، التي تحتل الفضاء بهدوء قوتها. أما في لوحة "ضحية مجزرة" لمها ضاهر، فتبدو اللغة كأنها لطخة دم، يتمسك جسم المقتولة بها كي لا يقع ويتلاشى.
تتألف اللغة السورية من لحم ودم. لذا، كان النطق بالثورة، والتعبير عنها، بعدما بدأ النظام بارتكاب مجزرته، صعباً للغاية. يتطلب الحديث عن سوريا لغة تستطيع أن تلفظ الموت جلداً وعظماً، كما في مقدورها أن تفوق الجسد إفرازاً وارتعاشاً. لقد أنتجت ثورتي السورية رغبة في تماثل اللغة والموت، يعني أن نتكلم عن غياب الأحباء والأصدقاء كأننا نرحل معهم، أو كأننا نسبقهم إلى الخفاء.


الإكتراث إلى التداعي
هل يمكننا أن نثور مع الأصدقاء في سوريا ضد الطاغية؟ كان هذا هو استفهامنا في الواقع، وفي الكتابة. إذ شعرنا أننا الدمع ينهمر من تلقاء عيوننا، ينصبّ مثل الدم فوق جثة مجتمعية، نعرفها وتعرفنا خلال طفولتنا، ومراهقتنا، وما تيسر من نضجنا. كيف نُسقط بشار الأسد؟ هنا في لبنان، وهناك في سوريا، وهنا في البلدين، بلا "أرضين". كيف نثور في وجه البعث، كي لا يتجرأ على القبض على أنفاسنا من جديد. هو وجه مشوّه، والسوريون، وجوه مشرّعة على الخلق. النظام هُزم إبداعياً أيضاً، وليس لغوياً فحسب. في النتيجة، هُزمت السلطات الأسدية فنياً، لكنها قتلتنا. قتلت أصدقاءنا، دمرت بيوتنا، هزمت أصحابنا، غلبت أحباءنا. لكنها لم تنتصر!
مجزرة في درعا، مجزرة في حماة، مجزرة في حمص، في القزاز، في الحولة، في التريمسة، في داريا، في بستان القصر، في جديدة الفضل، في بانياس، في الغوطتين، وغيرها كثير. على رغم ذلك، يستمر الشعب السوري في مواجهة النظام. يتهجر، يلجأ، يموت، يُقتل، يجوع، يبرد. إلا أنه، يستمر في المواجهة. حتى الكتابة تستسلم أمام صورة أول جثة. تستسلم، وتزيح أصنامها، تسكتهم، كي تتيح لذواتها المكبوحة أن تصرخ.
أربك البعث، بسلطاته ومؤسساته، كل نظامنا الحياتي. لهذا السبب، لن ينصرف قبل أن يطيح جزءاً كبيراً من ركائزنا اليومية: النظر، الكتابة، الفن، الحضور، والموت طبعاً. كيف ننقذ الموت من البعث؟ إسألوا أطفال جمعة الحرية (3 حزيران 2011)، وبعد هذا الإستفهام، لا تعتمدوا الطريقة ذاتها في الإدراك والتأويل، مثلما كانت عليه الحال قبل آذار 2011. لننس الأرض، وكل ممارساتها القديمة. لنفتت عيوننا، ولنرمها في ماء الخيال، ولا نكترث بعد اليوم لسوى الغرق!
الثورة في سوريا ثورات ذاتية. نتكلم في مآلاتها، لكنها تكتبنا، وتتكلم عنا. في أوقات أخرى، نراها تعبّر عن حاجتها إلينا، نحن الذين لا نسكن بلادها، لكننا نمكث في قصصها، وأحداثها، كما أننا نتأثر بوسائلها وغاياتها. الأكثر أهمية، أننا لا نزال نسألها: هل أنتِ ثورتنا التي ستحقق الحرية لرفاقنا؟ هي ثورتنا النهائية في وجه الطاغية، الذي اعتقل الأجيال السابقة. بعضها، ابتلعته "الأرض"، وبعضها الآخر، خرج من السراديب واختفى. لذا، فإن الارتعاشة السورية انفجار استعاري بعد عقود من الإبتلاع والإختفاء.
فليعرف الجميع أن بشار الأسد ساقط، وأن الشعب السوري يرتعش!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم