السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

جلال خوري كان خيّاطاً مسرحياً ماهراً (1934 – 2017

بقلم جلال خوري
جلال خوري كان خيّاطاً مسرحياً ماهراً (1934 – 2017
جلال خوري كان خيّاطاً مسرحياً ماهراً (1934 – 2017
A+ A-

مات الخيّاط جلال خوري (1934 – 2017) في الليل، في أوله تقريباً. ولم تنفع في قلبه الذي فاجأه السكوت على غير موعد، كل محاولات الأطباء لاسترجاع نبضاته. لكن هذا المسرحي الكبير، السياسي الاجتماعي الإنسانوي الهزلي الشعبي، بالفرنسية والعربية، لم يشأ أن يسلّم الروح إلاّ بعد أن يستكمل جولته المتأنية الجريئة في القرى الأمامية، على طريقة جحا، معرّجاً على قانا، ليعود إلى عرينه البيروتي، مسرح الكذبة الجميلة الكبرى.

كان لا بدّ للخيّاط بالفطرة والوراثة والتدرب (أخذ المهنة عن أبيه الخيّاط المعروف في ذاك الزمن) من أن يخرج من عباءة "المركز الجامعي للدراسات المسرحية"، لتفتح له بيروت فضاءها المسرحي الجمّ، ومزاجها الثقافي، وهو أحد أركان الزهو الثقافي والمسرحي، الستيني والسبعيني البيروتي، ليختبر في العاصمة، ويجرّب، على طريقة المختبِرين والمجرِّبين، ما ينبغي للمسرح أن يتوصل إليه بعد طول تشبّعٍ من النظريات، وتأثرٍ بالمرجعيات المسرحية، واحتكاكٍ بالواقع المتشعب والمعقد.

قلت إنه كان خيّاطاً ماهراً. وكان خيّاطاً تجريبياً في المسرح، سياسياً، انتقادياً، رافضاً، ومتمرداً. بمعنى أنه كان شيّقاً في نسج الخيوط وفي إخفاء القطب، وفي التطريز، وفي تنشئة الممثل، وفي الإخراج، بغية إنجاز الثوب المسرحي ليكون مؤهلاً ليوم العرض الكبير، حين كان على المسرح، في رأيه، أن يحمل قضايا الشعوب ضد التخلف والاستبداد والرجعية.

كان لا بدّ له، أولاً بأول، من أن يستعيد عمله البكر، "وايزمانو بن غوري وشركاه"، عن نشوء الكيان الصهيوني، وأن يلقي السلام على "الرفيق سجعان"، ولم تكن لتفوته فرصة أن يشاهد، وإن من وراء الكواليس، متلصصاً عبر فتحة قليلة في الستارة، تلك المحاورات الممتازة بين "شاهين وطنسا"، في المسرحية التي اشتهرت بعنوانها الأغرّ، "كذّاب".

كان عليه أن يتذكر "فخامة الرئيس" – مَن لا يتذكر "فخامة الرئيس"؟ - في عزّ العنف الأهوج، والرهبة الحربية المرعبة، واليد الميليشيوية على الحياة والخارجين على القطيع، من دون أن يغفل تزجية الوقت برؤية أرتورو أوي في صعوده "الهتلري" الميمون، مأخوذاً بطريقة بريشت، ودائماً من خلال التأثر بالمسرح الألماني، وموصوماً على مستوى المضمون بأوجاع القضية الفلسطينية، وهزيمة 1967.

كان الخيّاط المسرحي باسقاً كشجرة سرو، ويسارياً أيام كانت النفحة اليسارية توحي الاعتزاز والكِبر، وكان فرنكوفونياً بامتياز، منذ أن عمل في "المسرح الوطني الشعبي" في باريس، ثمّ في "المركز الجامعي للدراسات المسرحيّة"، مقترحاً منذ البداية، وبالفرنسية، "في انتظار غودو" لبيكيت، التي حظيت بنجاح ملحوظ.

ينبغي لنا، ونحن نتذكر هذا الخيّاط، أن نستحضر في الأقل الأقل، نبيه أبو الحسن وفيليب عقيقي، الممثلَين الموهوبَين بالفطرة والمراس معاً، اللذين رافقاه، مع آخرين، في تقديم هذا المسرح إلى الجمهور اللبناني وسواه، وفي حيازة إعجابه وتصفيقه.

لكن المخرج الطليعي الذي آثر الاختبار والتجريب والصعوبة، شاء أن لا يبقى زاهداً بالجمهور العريض، فجرّب الأعمال الفودفيلية والهزلية الضاحكة، التي مال فيها إلى البعد الشعبوي، وإلى التسلية، في اقتناص ضحكة الجمهور وتصفيقه، ربما بسبب ما كان يستشعره من رهاب المأزق الذي وقعت فيه الأعمال الطليعية لدى اصطدامها بأمزجة الجمهور.

وحين كرّت أعمال من مثل "يا ظريف أنا كيف" (1992)، "رزق الله يا بيروت" (1994)، "هنديّة، راهبة العشق" (1999)، "الطريق إلى قــانــا" (2006)، و"رحلة مُحتار إلى شرْي نَغار" (2010)، كان لا بدّ للمُشاهد من أن يعاين الفرق بين البدايات وأيام الزهو، وبين النهايات، وخصوصاً بعدما ابتعد جلال خوري الطليعية التجريبية، لينصرف إلى بعض التبسيط المسرحي الشعبوي، في خلطة ربما لم تعجب زهّاد المسرح ورهبانه وأساتذته الكبار، ولم تحصد الكثير من الإجماع حولها، بل الكثير من الانتقاد.

أمس، دخل الخيّاط الماهر ليله، وبقي فيه. المهرة الخيّاطون الروّاد لم يبقَ منهم إلاّ قلائل. وهم سيغادروننا واحداً تلو آخر. للأسف، لن يُعطى لأحدٍ منهم بعد وقتٍ، قد يكون قصيراً أو طويلاً، أن يظلّ شاهداً. ذلك كان زمناً بيروتياً عزيزاً، في طريقه إلى الأفول.

أعرف أن جيلاً مسرحياً مخضرماً، يشغل اليوم مسارحنا، ويحييها من جديد، بنفحات وبصمات مختلفة، ترافق طباع العصر وأمزجته وهواجسه، في الإخراج والتمثيل والسينوغرافيا والكتابة.

هذا الجيل المخضرم والجديد، لا بدّ من أن يلقي التحية على الخيّاط الراحل، آخذاً من يده أسرار الخياطة وفنونها، وما ينبغي له أن يتعلّمه منه، متطلعاً إلى غدٍ مسرحي أفضل، وإلى خياطةٍ لا بدّ أن تلائم جسد هذا الزمن السوريالي الجديد وقوامه غير المسبوق.

[email protected]



اقرأ أيضاً: المسرح سيفتقد جلال خوري... "شمعة ضائعة أخذها النعاس للنوم إلى الأبد"

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم