الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

فصل من رواية مَن سرق الآثار الفينيقية قرب الريفولي؟*

المصدر: "النهار"
أنطوان أبو زيد
فصل من رواية مَن سرق الآثار الفينيقية قرب الريفولي؟*
فصل من رواية مَن سرق الآثار الفينيقية قرب الريفولي؟*
A+ A-

في البداية، لم أرد الإساءة الى نعمان لأنه خلّصنا، في اللحظة الأخيرة من هذا الشرير. ولكن حين هدأت الأمور وعدنا إلى المنزل، منزل شركة "التنّين"، طرحتُ على نفسي وعليه أسئلة كثيرة . لا ليجيب عنها، بل لأضعه أمام مسؤوليات وخيارات لا يقوى عليها، ربما. 

ما شأن خياره في النزول الى المدينة، شارع باستور، وبعد ذلك الشارع الموازي لفؤاد شهاب، وفي عزّ أعمال الصيانة وإعادة الإعمار التي كانت جارية؟ ألم يكن يقدّر أنّ الأرض التي كنا نسير فوقها كانت تميد

بغيابنا، او بإغفاءة جفوننا عنها؟ يموت شارع هناك، ثم يموت شارع آخر، وينوب عنهما شارع ثالث، ثم تسقط أبنية كأن بطرفة عين، ما كانت الحرب قد أغفلت إسقاطه.

لم أكن لأتحمّل هذه المزاجية في طريقة البناء وإعادة تدوير السكن أو ما هو بديل منه. لم أكن لأتحمّل غيابه عن المنزل لأيام طويلة. تبيّن لي أنه منشغل فيها بالجانب الأسود من هذه المدينة الغريبة، منشغل بباطنها الذي يشبه باطن امرأة لا أقول فاتنة، وإنما مفتنة. لم أكن لأتحمّل إرادته في مواجهة الأمور برأسه الصغير وحده، كأنّ المدينة هذه التي ارتضينا الهبوط اليها مطرودين، من نعيم الضواحي، خيار مستحيل لم يعرف أنه كذلك. وهل كان الاخرون يعرفون؟ وهل كان الساكنون في الضواحي يعرفون أنّ المدينة لا تقوم في ساحاتها ودكاكينها، وإنما في باطنها؟ وأنّ هذا الخيار مستحيل لهم ولغيرهم؟ ولكن من كان ليهتمّ بالآخرين؟

لم اكن لأتحمّل، أنا المهاجرة من بلد الألفة البديهية التي لم يحن موتها بعد، أن ألبس ثياب الصمت أربعاً وعشرين ساعة في النهار من اجل ان أراه أو لا أراه يغيب في جوف المدينة التي تستحضر أرواحًا لإحياء ماضٍ قريب لا أعرفه، ولستُ مضطرّة أن اعرفه! أن تسوق حياتين أمامك، في مدينة لا تعرفها أو لا تعرفك كأن تجرّ قافلة بأعصاب قدميك ولا يتاح لك الجلوس في واحات لا تتسع لغير ذوي الحيلة. مدينة الحيَل هي. كأنني اكتشفت البارود!  

قلتُ لنعمان:

- شو بدنا نعمل؟

- بالنسبة لشو؟

- لبكرا. بالإذن من زياد رحباني!

- الولد؟ عم بتفكّر بالولد؟

- أكيد؟

- تعتبر إنو بيناسبو المحفار؟ وهالمدينه؟

- لا... لا.

- يعني؟

- انتهينا من عبدالله!

- ومرتو كمان؟

- شو؟؟ مين خبّرك؟ هالمحتال عبدالله؟

- أنا ما رح وقّف عند هالنقطه! سألتك إذا كنت رح تترك المدينه أو لا!

- قلتلك انسينا كل مرحلة عبدالله وشركة "التنّين"!

- أنا قلت المدينه كلّها! المدينه تعتبرها المرا التانيه اللي ما فيني عليها!

- هلقد؟!

- لأنها مش عارفه عا أيّا أصل بدّها تركب!

- والمدارس والشغل اللي بتوفّره؟

- بالدرجة التانييه كلها. أنا على كلّ حال، ماشيه وما رح أنطر كتير حتّى تظبط الأمور وتاخد المدينه شكلها المعقول!

- وحدك؟

- لا أكيد مش وحدي!

- الولد؟

- بيتعلّم متل ما تعلّمنا... وبياكل متل ما أكلنا... والله وليّ التوفيق، متل ما بيقولو.

- ما فينا نعمل شي. أوكي.

- أيمتى؟

- بكرا.

***

عليَّ أن أنهي الفصل الأخير من محاكمة عبدالله. لم يحاسَب على مقتل مارتينوس لأنه لم يكن حاضرا ولم تثبت إدانته من خلال أدلّة مادية بيّنة. في ما خصّ سرقة الآثار التي وجدها في المحفارين 31 و32، وهو من كان مسؤولا عن أعمال الحفر فيهما لصالح شركة "التنّين" التي بدورها لم تكن على علم بما كانت الحفريات تكتشفه من آثار متفرّقة. إنما هي كانت مسؤولة عن المباني الأثرية الظاهرة للعيان قبالة سينما الريفولي قديما، وأول نزلة شارع المعارض. نعم. حتّى أنّ الشركة هذه، وللتدليل على عنايتها بالآثار، كنز المدينة العريق، عمدت الى تسوير تلك الأماكن، ومنعت من البناء عليها، أو استغلال مساحاتها لأغراض تجارية.

هذا كله مدوّن في سجلات الشركة، على ما قال محاميها لدى السلطات المختصة.

لكن. ما الذي جرى في القضية الثانية؟ أي تلك المتهم فيها، شخصيا، بتدبير سرقة الآثار، ولا سيما التماثيل والفخاريات المزينة وبعض ألواح الفسيفساء الرومانية التي كانت تزيّن، لألفي سنة، صحون الدار في بيوت أهل المدينة؟ ادّعى المتهم عبدالله أنه لم يكن على علم بأنّ للدولة حقا حصريا في الآثار الضئيلة الحجم كالتماثيل والفخاريات وغيرها. وأنه كان، في بداية الأمر، هاويا جمع الأنتيكا من البيوت التي تود التخلّص منها. أو كان يشتريها من المقاتلين القدامى الذين راكموا مقتنيات وغنائم وباتوا الآن في عوز ويسعون الى مبادلتها بالمال.

لدى سؤال وجّهته اليه المحكمة عن الأجانب الذين كانوا في القارب الآتي من قبرص، ومدى معرفتهم المسبقة بحمولة قاربه، أي بالتماثيل والفخاريات والألواح ذات الكتابات الفينيقية، أجاب أن هؤلاء مجردهواة ومغامرين. وأنه تعرّف الى واحد منهم، منذ ثلاث سنوات، في رحلة له الى باريس، بمجرد المصادفة، وكان الأخير قارئا نهما للتاريخ الفينيقي وبات معجبا بكل ما تركه هذا الشعب من آثار وأوابد. ولكن الأحجية تظل في المال. ماذا عن الفواتير التي كانت تسدد بها سجلات هذه الآثار وأرقام المبالغ التي كانت توضع على كل غرض أو أثر منها؟ وماذا عن مبلغ الخمسة عشر ألف دولار الذي أصرّ صاحبنا أن يقبضه من نعمان، مساعده في المحفار، والذي لزّمه المزاد العلني لقطعة أثرية فينيقية نادرة؟ لم يجب عبدالله عن هذين السؤالين وترك أمر الإجابة للمحامي الذي عيّنه له أحد النافذين.

***

من قال إنني شردت، انتهيت الى حافة الهاوية التي لن أقوى على العودة منها سالما؟ من ظنّ أني بعتُ نفسي لإبليس في صورة عشتار؟ لا أدّعي أني نقيّ نقاء كاملا. ولا أعتبر نفسي معصوما عن الخطأ. أنا نعمان صاحب الأخطاء الكثيرة، لا أخفيكم أني أدّعي عدم الخطأ. وهذا ما أخالف به كثيرين. صحيح أني لم أرد عشتار في البداية، شريكة لي في حياتي الواهمة – في مقابل الفاهمة على حدّ اعتبار أحد الفلاسفة العرب – المدينة، لي أنا الحفار القديم، والتائه الجديد، هي الوهم الذي سوف أبنيه في ما بقي لي من أيام. هي سجني البرّاني الجميل الذي أعمّره، حجرا فوق حجر، وأرصفه شكلا وراء شكل، على هيئة عشتار التي تنام معي ههنا، في المستوعب الحرّ الذي تركته الشركة على الطرف الغربي من الشاطئ، من حيث أطلّ على البحر، وجهة عشتار ووجهة البحارة السابقين. لمّا سألني المحقق عن مدى معرفتي بالمخطط الذي كان عبدالله قد رسمه لنفسه، رغم أنه كان ينتمي الى شركة متعاقدة مع الدوائر الرسمية، أجبتُ بأني لم أكن أعرف شيئا من هذا المخطط، وبأنّ كلّ ما أردته هو العمل والارتزاق وتدبير شؤون عائلتي الصغيرة.

ما دام أنّ معاشي في التعليم لا يتيح لي تغطية كل مصاريف العائلة.

في التحقيق الجانبي الذي أجري لي، باعتباري مساعدًا لعبدالله، سألني أحدهم عن آخرين كانوا الى جانبه، مثل جليل. قلتُ لم أعد أعرفه. كان مشغّلا إحدى الحافرات في المكان حيث كنت أعمل. لم أعد أراه. منهم من قال إنه لم يعرف عنه سوى أنه هاجر الى بلد غريب. أما مارتينوس فقد رأيته، في ما مضى، لمرّة واحدة وهو يساق الى المخفر لسبب لم أعرفه. ثم سئلتُ عن امرأتي، فقلتُ إنها ضحية عشتار. ضحك المحقق والحاضرون. فقال لي: "ومن تكون عشتار هذه؟ شخصية جديدة لم تعرّفنا عليها؟". قلت: بل هي تلك التي رافقتني في رحلتي الى المدينة. هي الكوكب الدرّيّ الساطع "لأجل سِنْ وشاماش، النهار والليل، وقد جعلا لها متساويين في الزمن. وصحّ أن ترتقي عشتار، إذًا، إلى مصافّ ملوكيّتها على سائر الكواكب والدنى".

- وما صلة عشتار بهذا أيها المؤرّخ الفذّ؟!

- إنها، عشتار، أو "إنّين"، على ما يدعوها البابليون، مليكة الكواكب التي استنير بها في لياليّ المظلمة كلّها في المدينة.

قال أحدهم:

- أتركوه يقول ما يشاء. فقد تمّ ما تمّ.

* فصل من "الحفّار والمدينة"، رواية أنطوان أبو زيد الجديدة لدى "دار ضفاف" و"دار الاختلاف"، يوقّعها الكاتب في جناح الدار في إطار معرض بيروت الدولي للكتاب 61، البيال، يوم الخميس الواقع فيه 7 كانون الأول بين الخامسة والثامنة مساء.

فصل من رواية

مَن سرق الآثار الفينيقية قرب الريفولي؟*

أنطوان أبو زيد


في البداية، لم أرد الإساءة الى نعمان لأنه خلّصنا، في اللحظة الأخيرة من هذا الشرير. ولكن حين هدأت الأمور وعدنا إلى المنزل، منزل شركة "التنّين"، طرحتُ على نفسي وعليه أسئلة كثيرة . لا ليجيب عنها، بل لأضعه أمام مسؤوليات وخيارات لا يقوى عليها، ربما.

ما شأن خياره في النزول الى المدينة، شارع باستور، وبعد ذلك الشارع الموازي لفؤاد شهاب، وفي عزّ أعمال الصيانة وإعادة الإعمار التي كانت جارية؟ ألم يكن يقدّر أنّ الأرض التي كنا نسير فوقها كانت تميد

بغيابنا، او بإغفاءة جفوننا عنها؟ يموت شارع هناك، ثم يموت شارع آخر، وينوب عنهما شارع ثالث، ثم تسقط أبنية كأن بطرفة عين، ما كانت الحرب قد أغفلت إسقاطه.

لم أكن لأتحمّل هذه المزاجية في طريقة البناء وإعادة تدوير السكن أو ما هو بديل منه. لم أكن لأتحمّل غيابه عن المنزل لأيام طويلة. تبيّن لي أنه منشغل فيها بالجانب الأسود من هذه المدينة الغريبة، منشغل بباطنها الذي يشبه باطن امرأة لا أقول فاتنة، وإنما مفتنة. لم أكن لأتحمّل إرادته في مواجهة الأمور برأسه الصغير وحده، كأنّ المدينة هذه التي ارتضينا الهبوط اليها مطرودين، من نعيم الضواحي، خيار مستحيل لم يعرف أنه كذلك. وهل كان الاخرون يعرفون؟ وهل كان الساكنون في الضواحي يعرفون أنّ المدينة لا تقوم في ساحاتها ودكاكينها، وإنما في باطنها؟ وأنّ هذا الخيار مستحيل لهم ولغيرهم؟ ولكن من كان ليهتمّ بالآخرين؟

لم اكن لأتحمّل، أنا المهاجرة من بلد الألفة البديهية التي لم يحن موتها بعد، أن ألبس ثياب الصمت أربعاً وعشرين ساعة في النهار من اجل ان أراه أو لا أراه يغيب في جوف المدينة التي تستحضر أرواحًا لإحياء ماضٍ قريب لا أعرفه، ولستُ مضطرّة أن اعرفه! أن تسوق حياتين أمامك، في مدينة لا تعرفها أو لا تعرفك كأن تجرّ قافلة بأعصاب قدميك ولا يتاح لك الجلوس في واحات لا تتسع لغير ذوي الحيلة. مدينة الحيَل هي. كأنني اكتشفت البارود!

قلتُ لنعمان:

- شو بدنا نعمل؟

- بالنسبة لشو؟

- لبكرا. بالإذن من زياد رحباني!

- الولد؟ عم بتفكّر بالولد؟

- أكيد؟

- تعتبر إنو بيناسبو المحفار؟ وهالمدينه؟

- لا... لا.

- يعني؟

- انتهينا من عبدالله!

- ومرتو كمان؟

- شو؟؟ مين خبّرك؟ هالمحتال عبدالله؟

- أنا ما رح وقّف عند هالنقطه! سألتك إذا كنت رح تترك المدينه أو لا!

- قلتلك انسينا كل مرحلة عبدالله وشركة "التنّين"!

- أنا قلت المدينه كلّها! المدينه تعتبرها المرا التانيه اللي ما فيني عليها!

- هلقد؟!

- لأنها مش عارفه عا أيّا أصل بدّها تركب!

- والمدارس والشغل اللي بتوفّره؟

- بالدرجة التانييه كلها. أنا على كلّ حال، ماشيه وما رح أنطر كتير حتّى تظبط الأمور وتاخد المدينه شكلها المعقول!

- وحدك؟

- لا أكيد مش وحدي!

- الولد؟

- بيتعلّم متل ما تعلّمنا... وبياكل متل ما أكلنا... والله وليّ التوفيق، متل ما بيقولو.

- ما فينا نعمل شي. أوكي.

- أيمتى؟

- بكرا.

***

عليَّ أن أنهي الفصل الأخير من محاكمة عبدالله. لم يحاسَب على مقتل مارتينوس لأنه لم يكن حاضرا ولم تثبت إدانته من خلال أدلّة مادية بيّنة. في ما خصّ سرقة الآثار التي وجدها في المحفارين 31 و32، وهو من كان مسؤولا عن أعمال الحفر فيهما لصالح شركة "التنّين" التي بدورها لم تكن على علم بما كانت الحفريات تكتشفه من آثار متفرّقة. إنما هي كانت مسؤولة عن المباني الأثرية الظاهرة للعيان قبالة سينما الريفولي قديما، وأول نزلة شارع المعارض. نعم. حتّى أنّ الشركة هذه، وللتدليل على عنايتها بالآثار، كنز المدينة العريق، عمدت الى تسوير تلك الأماكن، ومنعت من البناء عليها، أو استغلال مساحاتها لأغراض تجارية.

هذا كله مدوّن في سجلات الشركة، على ما قال محاميها لدى السلطات المختصة.

لكن. ما الذي جرى في القضية الثانية؟ أي تلك المتهم فيها، شخصيا، بتدبير سرقة الآثار، ولا سيما التماثيل والفخاريات المزينة وبعض ألواح الفسيفساء الرومانية التي كانت تزيّن، لألفي سنة، صحون الدار في بيوت أهل المدينة؟ ادّعى المتهم عبدالله أنه لم يكن على علم بأنّ للدولة حقا حصريا في الآثار الضئيلة الحجم كالتماثيل والفخاريات وغيرها. وأنه كان، في بداية الأمر، هاويا جمع الأنتيكا من البيوت التي تود التخلّص منها. أو كان يشتريها من المقاتلين القدامى الذين راكموا مقتنيات وغنائم وباتوا الآن في عوز ويسعون الى مبادلتها بالمال.

لدى سؤال وجّهته اليه المحكمة عن الأجانب الذين كانوا في القارب الآتي من قبرص، ومدى معرفتهم المسبقة بحمولة قاربه، أي بالتماثيل والفخاريات والألواح ذات الكتابات الفينيقية، أجاب أن هؤلاء مجردهواة ومغامرين. وأنه تعرّف الى واحد منهم، منذ ثلاث سنوات، في رحلة له الى باريس، بمجرد المصادفة، وكان الأخير قارئا نهما للتاريخ الفينيقي وبات معجبا بكل ما تركه هذا الشعب من آثار وأوابد. ولكن الأحجية تظل في المال. ماذا عن الفواتير التي كانت تسدد بها سجلات هذه الآثار وأرقام المبالغ التي كانت توضع على كل غرض أو أثر منها؟ وماذا عن مبلغ الخمسة عشر ألف دولار الذي أصرّ صاحبنا أن يقبضه من نعمان، مساعده في المحفار، والذي لزّمه المزاد العلني لقطعة أثرية فينيقية نادرة؟ لم يجب عبدالله عن هذين السؤالين وترك أمر الإجابة للمحامي الذي عيّنه له أحد النافذين.

***

من قال إنني شردت، انتهيت الى حافة الهاوية التي لن أقوى على العودة منها سالما؟ من ظنّ أني بعتُ نفسي لإبليس في صورة عشتار؟ لا أدّعي أني نقيّ نقاء كاملا. ولا أعتبر نفسي معصوما عن الخطأ. أنا نعمان صاحب الأخطاء الكثيرة، لا أخفيكم أني أدّعي عدم الخطأ. وهذا ما أخالف به كثيرين. صحيح أني لم أرد عشتار في البداية، شريكة لي في حياتي الواهمة – في مقابل الفاهمة على حدّ اعتبار أحد الفلاسفة العرب – المدينة، لي أنا الحفار القديم، والتائه الجديد، هي الوهم الذي سوف أبنيه في ما بقي لي من أيام. هي سجني البرّاني الجميل الذي أعمّره، حجرا فوق حجر، وأرصفه شكلا وراء شكل، على هيئة عشتار التي تنام معي ههنا، في المستوعب الحرّ الذي تركته الشركة على الطرف الغربي من الشاطئ، من حيث أطلّ على البحر، وجهة عشتار ووجهة البحارة السابقين. لمّا سألني المحقق عن مدى معرفتي بالمخطط الذي كان عبدالله قد رسمه لنفسه، رغم أنه كان ينتمي الى شركة متعاقدة مع الدوائر الرسمية، أجبتُ بأني لم أكن أعرف شيئا من هذا المخطط، وبأنّ كلّ ما أردته هو العمل والارتزاق وتدبير شؤون عائلتي الصغيرة.

ما دام أنّ معاشي في التعليم لا يتيح لي تغطية كل مصاريف العائلة.

في التحقيق الجانبي الذي أجري لي، باعتباري مساعدًا لعبدالله، سألني أحدهم عن آخرين كانوا الى جانبه، مثل جليل. قلتُ لم أعد أعرفه. كان مشغّلا إحدى الحافرات في المكان حيث كنت أعمل. لم أعد أراه. منهم من قال إنه لم يعرف عنه سوى أنه هاجر الى بلد غريب. أما مارتينوس فقد رأيته، في ما مضى، لمرّة واحدة وهو يساق الى المخفر لسبب لم أعرفه. ثم سئلتُ عن امرأتي، فقلتُ إنها ضحية عشتار. ضحك المحقق والحاضرون. فقال لي: "ومن تكون عشتار هذه؟ شخصية جديدة لم تعرّفنا عليها؟". قلت: بل هي تلك التي رافقتني في رحلتي الى المدينة. هي الكوكب الدرّيّ الساطع "لأجل سِنْ وشاماش، النهار والليل، وقد جعلا لها متساويين في الزمن. وصحّ أن ترتقي عشتار، إذًا، إلى مصافّ ملوكيّتها على سائر الكواكب والدنى".

- وما صلة عشتار بهذا أيها المؤرّخ الفذّ؟!

- إنها، عشتار، أو "إنّين"، على ما يدعوها البابليون، مليكة الكواكب التي استنير بها في لياليّ المظلمة كلّها في المدينة.

قال أحدهم:

- أتركوه يقول ما يشاء. فقد تمّ ما تمّ.

* فصل من "الحفّار والمدينة"، رواية أنطوان أبو زيد الجديدة لدى "دار ضفاف" و"دار الاختلاف"، يوقّعها الكاتب في جناح الدار في إطار معرض بيروت الدولي للكتاب 61، البيال، يوم الخميس الواقع فيه 7 كانون الأول بين الخامسة والثامنة مساء.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم