الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

وجه آخر للكارثة السورية\r\n

المصدر: "النهار"
محمد أبي سمرا
A+ A-

روت شابة لبنانية تعمل في منظمة دولية ناشطة في مجال إغاثة اللاجئين السوريين وتنظيم شؤونهم وتدبيرها في البقاع، أن موظفاً في سوبر ماركت في زحلة، دخلت اليه للمرة الاولى للتبضع، فاجأها بسؤاله: في أيّ منظمة تعملين، دوموازيل؟


لم يكن قد مضى على وصول الشابة الى زحلة ونزولها في شاليه استأجرتها لإقامتها في مجمع سياحي، سوى يوم واحد. وكان عليها أن تنتظر نحو أسبوع من العمل والإقامة في البقاع، كي تلقى جواباً عن تساؤلها: كيف علم موظف السوبر ماركت بأنني أعمل في منظمة دولية؟ ولماذا؟
علمت الشابة الوافدة حديثاً من بيروت، أن مئات من الشبان والصبايا من العاملين والعاملات أمثالها في منظمات دولية، قد سبقوها في التوافد الى المنطقة للعمل والإقامة فيها في السنتين الماضيتين. فهذا العدد الكبير من موظفي المنظمات الذين استقدمتهم الكارثة السورية الى المنطقة، صار حضوره ملحوظاً في البقاع، وخصوصاً في الشارع الزحلي المحلي، حيث تكثر مكاتب المنظمات (أكثر من 15 منظمة)، ويتكاثر العاملون فيها وتتركز إقامتهم الموقتة، واستئجارهم غرفاً وشاليهات وبيوتاً وشققاً مشتركة. هكذا ارتفعت بدلات الإيجار في زحلة وشتورا والقرى والبلدات القريبة، وندرت البيوت والشقق السكنية الشاغرة التي تزاحم على استئجارها اللاجئون السوريون القادرون على تسديد بدلات إيجارها من مدخراتهم، أو مما يحصّلونه من أعمالهم الموقتة في مناطق اللجوء. وهكذا صار العاملون في مجالات الخدمات والمتاجر والمقاهي والمطاعم في البقاع، قادرين على تمييز اللبنانيين من زبائنهم الغرباء عن المنطقة، فيرشدهم سلوكهم وقيافتهم ونوع الخدمات والسلع التي يطلبونها، الى أنهم من العاملين والعاملات في المنظمات الدولية.
في سياق آخر روت عاملة في إدارة "تعاونيات الاتحاد الوطني" في بيروت، أن فروع التعاونية في البقاع شهدت منذ أكثر من سنة ارتفاعاً مضاعفاً في مبيعاتها من المواد الغذائية وسواها من السلع. مصدر هذا الارتفاع الكبير هو أيضاً الكارثة السورية. فالمنظمات الدولية توزع على الفقراء والمعوزين من اللاجئين السوريين، وخصوصاً المقيمين منهم في مخيمات بائسة، قسائم شهرية بقيمة معينة من المال تمكّنهم من الحصول على مواد غذائية أساسية من التعاونيات المذكورة.
هذا غيض من فيض دورة الأعمال والاستهلاك والخدمات الناشطة المستجدة في البقاع، نتيجة تضخم أعداد اللاجئين السوريين. فالمنظمات الدولية الكثيرة، الى كوادرها العالية الكفاءة المستقدمة من خارج البقاع (من أجانب ولبنانيين)، تستخدم أيضاً عدداً كبيراً من شبان المنطقة وشاباتها، وخصوصا من زحلة وشتورا والبلدات والقرى المجاورة، في شبكات أعمالها المتنوعة المتعلقة بإغاثة اللاجئين السوريين ورعايتهم الصحية وتدبير شؤونهم الغذائية والسكنية والرعائية وتنظيمها. هؤلاء الشبان والشابات غالباً ما يكونون من حملة الاجازات الجامعية العاطلين عن العمل، بسبب ضيق السوق المحلية عن استيعابهم.
روت شابة السوبرماركت في زحلة أن بعضاً من الأسر في المدينة وجوارها يعمل اثنان أو ثلاثة من ابنائها في المنظمات الدولية العاملة في البقاع، مما خفض من نسبة البطالة بين الفئات الشابة.
الى هذا، ثمة ايضاً نشاط متزايد في العمل في مجال النقل ووسائله. فأعمال المنظمات الدولية وشبكاتها في حاجة الى سيارات مستأجرة وسائقين لنقل موظفيها بين زحلة والكثير من القرى والبلدات، وصولاً الى عرسال، حيث ينزل اللاجئون السوريون في المخيمات، ومعظمهم من النساء والأطفال والأولاد. وحين سافرت إحدى العاملات في منظمة دولية ليومين الى القاهرة، لاحظت أن ركاب الطائرة في رحلتها من بيروت لم يكن عددهم يتجاوز العشرين، فيما غصّت الطائرة في رحلتها من القاهرة الى بيروت بركّاب من النساء والأطفال والأولاد السوريين.
الغاية من سرد هذه الوقائع التفصيلية، بيان وجهٍ آخر للكارثة السورية في اثرها على لبنان. فاذا كانت الحرب السورية، وكذلك الاضطراب اللبناني، السياسي والأمني، الناجم عنها وعن مشاركة "حزب الله" القتالية فيها الى جانب النظام الأسدي الاجرامي، قد أدت الى خسارة لبنان مواسمه من السياحة الخليجية فيه، كما أدت أيضاً الى تدفق ما يزيد على مليون لاجئ سوري الى مناطق لبنانية غصّت بهم وازدحمت حتى الاختناق الديموغرافي والسكني والخدمي، فإن احتياجات اللاجئين السوريين، وتحوّل لبنان مركزاً أساسياً لنشاطات المنظمات الدولية وأعمالها، أدت في المقابل الى تنشيط بعض قطاعات سوق العمل، وخصوصاً في المناطق، ولا سيما البقاع والشمال. أما منافسة السوريين للبنانيين في بعض الأعمال المتواضعة التي لا تحتاج الى خبرات وكفاءات، فليست مستجدة، مع العلم أن اللبنانيين تركوا مثل هذه الأعمال للعمالة الأجنبية من سورية وآسيوية ومصرية.
تبقى أخيراً مسألة ما يسمّى "الهواجس" اللبنانية الديموغرافية والسياسية والأمنية. هذه الهواجس ليست مستجدة بدورها، بل هي وليدة التاريخ الإقليمي الكئيب والمضطرب لهذه المنطقة وقضاياها المتناسلة في حقب كارثية متعاقبة، يتحمل اللبنانيون أوزارها. لكن بدل عملهم على تداركها وتصريفها والتخفيف من مآسيها عليهم وعلى بلدهم، يدفنون رؤوسهم في رمالها، متوهمين أن في وسعهم استعمالها على نحوٍ دونكيشوتي في عداواتهم وفي استقواء كل جماعة منهم على الاخرى، وصولاً الى التدمير الذاتي.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم