الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

لوحات سعد يكن في "غاليري SV": المُقنّع في دور الفراشة

المصدر: "النهار"
أسعد الجبوري
لوحات سعد يكن في "غاليري SV": المُقنّع في دور الفراشة
لوحات سعد يكن في "غاليري SV": المُقنّع في دور الفراشة
A+ A-

يعرض الفنان التشكيلي السوري #سعد_يكن أعماله الجديدة في "غاليري SV"، صيفي فيلدج، من 16 تشرين الثاني إلى التاسع والعشرين منه. عن المعرض كتب الشاعر والروائي أسعد الجبوري الكلمة الآتية: 

عندما يجسّد الفن التشكيلي مسرحاً للقلق، وحقلاً من حقول الدراماتيكية البصرية، يشكل بذلك أولى درجات الاضطراب في النفس البشرية الآيلة إلى السقوط في هاوية الظلام. هذا الأمر البصري، لا يشوّش عين النّاظر، بقدر ما يعكس أفعال مخلوقات الفنان المتدثرة في بواطن تربته، لأنها الفلذات التي تصنع تصاوير مخيّلته قبل ولادتها على القماش أو على الورق أو بالمواد الأخرى المشتقة من المعادن.

الفنان السوري الباهر سعد يكن، يذكرّني على الدوام بـ"أناشيد مالدورور" للشاعر الفرنسي لوتريامون: "جميلٌ أن نتأمل خراب المدن؛ لكن الأكثر جمالاَ تأمل خراب الآدميين".

يدرك متابعو سيرة الفنان سعد يكن عبر السنوات الفائتة، عمق المآسي التي يبني بها أعماله. فكلّ لوحةٍ تعبّر عن مجموعة مخلوقات متشابهة متنافرة، وكلّ مخلوقٍ يمثّل مدينة بتاريخه، طبيعته وطقوسه. إنه يعتمد على رؤى سيكولوجية لا تفصل الجسد عن النفس، ولا الجغرافيا عن الحلم، ولا التاريخ عن مستنقعات التماسيح التي تلبس أجمل الأزياء في سهرة الموت المفتوحة على الزمن بلا حدود.

الأعظم عند الفنان سعد يكن، أن له في كل لوحة اليد التي تحاول إطفاء الحريق، والإنقاذ، من دون أن تشوّش على الجماليات أو تدمّره عبثاً.

في هذا المعرض، يقدّم إلينا سعد يكن الفراشةَ كمخلوقٍ خالقٍ للبهجة، وملتبسِ بعوالمها الحسيّة والجمالية، وليس باعتبارها من جنس الحشرات المتعدَّدة الأنواع، الألوان والأشكال. إنما فراشات سعد يكن، تخرج هذه المرة، من النار العميقة للدراما الإنسانية، لا لتطير حول النار وتتهافت انتحاراً، بقدر ما يراد لها أن تستنهض فلذات المشاعر الداخلية للبشر، من أجل صناعة المعنى، خارج إطار الحرائق ومدافن القلق ومباني القهر والضياع والتشتت. لوحات تمثّل أمراضنا في أبهى صورها وتصاويرها المستمرّة من الرحم وحتى العدم.

لم اشك يوماً في القدرات الاستثنائية لميكانيكا العقل، التي تجاور السوريالية التخيّلية لديه. فهما كانا ولا يزالان يعملان على صناعة شخوص دراماتيكية، تارة بقناع وتارة أخرى عراة، لا يمكن ضبط إيقاعاتهم في هذه اللوحة أو تلك. 

ثمة أمر خاص يستوجب البناء عليه في لوحات سعد يكن قاطبةً، ألا وهو الطرب الحلبي المسفوح بين طبقاته اللونية سراً، حيث يظهر أحياناً بوضوح ليفتح مجاري الدمع في مآقينا، من دون اكتراث بردّ فعل. وأحياناً، يترك لنا ذلك الطربَ كمدفأة مشتعلة، تتطاير منها الأدخنة عبر فتحات العظام الباردة.

الفراشة اليوم في هذا المعرض، لا تبحث عن نار، لتنتحر وتخبو رماداً، بقدر ما هي مدخل لشفافيةٍ تحاول استثمار دراما شخوص اللوحات الهائمة في طقوسها المختلفة، ونقل تجاربها إلى أنفس روّاد المعرض عبر شبكات الأعين.

فالفراشُ هنا يتقدم على الألم، عندما يحاول تغطيته بأجنحته الملونة، وكذلك عندما يحاول نفض الغبار عن الأعماق، من خلال تلك الحركات التي تجتمع في الكائن البشري، كأنها تفجّر فيه سعادةً خجولة، يخشى إيقاظها في أعماقه، خوفاً من ألا تنجح تلك الفراشاتُ بتعويضه عن خسائره.

وإذا كان هنريش ويلفلن يقول إن "كل نظرية فنية يقابلها مشهد بصري"، فإن الفنان سعد يكن خبير بعلوم العواطف الآدمية التي تعبّر عما في الداخل من حب ومشقة وشوق واحتراق لكل ما يجعل تبدلات الحياة نحو المسار اللائق بإنسانية مضادّة للبشاعة والحروب والدمار.

من هنا تأتي فراشاتُ سعد يكن أدوات تعبير تستهدف كل ما هو متوحش. فراشاتٌ تتجلى في دمها شهواتُ الاندماج الغرامي بكل ما يجعل الأرواح معادلاً موضوعياً للفراشات التي تتجاوز خطوط النار إلى ما هو أبعد من الحريق بالشغف.


ان إيجاد فكرة الارتباط ما بين حواسّ فراشة الأكريليك والزيت وبين تناغم حرارة الدم البشري، لا يمر إلا عبر أجساد مقاومة لفكرة الموت، وهو ما حاول الفنان يكن أن يبثه في مخلوقاته المتعددة الأشكال والوظائف والاضاءات والتقنيات التي تعالج أحوالهم الثملة الخائفة المُدَمرة المغرمة الحالمة الصاخبة عبر حقول من الألوان التي تُثبت وجودها حتى وهم في عالم الغيب أو الغياب.

لذا ليس حزن سعد يكن معتماً، كما أنه غير موصوف بلون من الألوان الشائعة. فهذا الفنان يلعب ألعاباً كونية في صياغة مشروعه الخاص بكلّ لوحة تحمل أسرار تلك القسوة أو ما يناقضها تماماً. حتى الموت عند يكن يصبح نكتةً لا تحمل ملامح الفاجعة، كأنه لا يريد أن تكون لوحته أرملةً تختص بالعويل أو البكاء على الفقيد أو على المفقودات التي تدخل خزائن العدم.

نساء يتطايرن شرراً جميلاً وشهوات محمومة. رجال غامضون بملامح مشوهة، وعوالم مشيدّة بأحجار الكوابيس وبالموسيقى الداخلية للرعب الذاتي، متحكّماً بحركات التنفس والقدم والنظر والغرام والمرارة التي عادة ما تتشكل في ذهن يكن على أنها من مفاعيل الكوميديا القهرية لسنوات الجنون الحربي الذي أطلق رصاصته الأولى، لكي تبدأ الجثث بكتابة تاريخ هذه الأمة ولا تنتهي.

وإذا كانت السينوغرافيا تهتم بتأثيث خشبة المسرح وزخرفة ديكورات السينما والتلفاز وتزيينها، فإن عين سعد يكن الأممية، تحقق أعلى مستويات التفاعل البصري بين شياطينه الداخلية والألحان السوداء، لتأتي لوحاته بفضاءات سينمائية، غالباً ما تشذّ عن معظم ما يُرسَم في العالم العربي والغرب حتى.

معرض الفراشة هذا، محاولة من سعد يكن للالتفاف على تاريخه الفني الصعب والمعقّد والخليط العجيب ما بين السوريالية والوحشية والتكعيبية والرمزية والواقعية والرومنطيقية، في محاولة لتقديم نفسه بأثواب الفراشة. الفراشة البريئة المسالمة الطيبة المغفلة التي تذهب للاندماج بالنار فقط من أجل أن تثبت براءتها من التوحش والقسوة والجراثيم. لكن سعد يكن، ومهما بلغت به القوة لإثبات دوره كمنقذ، لا ينال لقب فنان الطوارئ لأنّه الكاشفُ عن حجم خرابنا روحياً ومعجمياً. لذلك فوراء كلّ فراشةٍ يكنية، فردوسٌ لم تُبقِ فيه الحرائقُ سوى الأنقاض.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم