الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

وتشعّ عيون لالة: من بُخَارى إلى منهاتن

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
وتشعّ عيون لالة: من بُخَارى إلى منهاتن
وتشعّ عيون لالة: من بُخَارى إلى منهاتن
A+ A-

"وطني أوزبكستان، أفديكَ يا مَعْدن الشرق..."، تَعْبُر شيدم قاعة الجلوس وادعةً، في شقتها الصغيرة، وهي تسجعُ بهذه الكلمات، من نشيد بلدها. ككل يوم، كانت تنتظر عودة زوجها في حدود الثالثة والنصف بعد الزوال، للذهاب إلى روضة الأطفال، والعودة بصغيرتهما "لالة". أحضرت الغداءَ، ووضعته على الطاولة، وبها لِعيون ابنتها شوقُ أمٍّ، طالت عليها ساعات يومها، ولمُروج بلدها حنينُ مهاجِرة: "وُلدتُ فيكَ، وفي ربوعكَ نشأتُ.."، تابعتْ بلا اكتراثٍ. وبعد الثالثة بدقائق قليلة، توقف فجأةً بث فلمٍ وثائقي عن "الثورة البولشيفية". وأضاء شريط أحمر معلِنًا وُرودَ خبرٍ عاجلٍ. تتالت الكلمات، مكتوبةً بالخط الكبير في أسفل #الشاشة: "اعتداء في حيِّ منهاتن". ثم ظهر المذيع: "نشهد عمليةَ دهس ضد المارة، في مسار للدراجات الهوائية. وردتنا للتو صورُ منفذ العملية... لا يزال يجري في الشارع... نزل من شاحنته قبل دقائق...مشاهد مرعبة...". تتالت الصور متسارعة، والتعليقات مُفككة حائرة، يبحث المذيع عن الكلماتِ، فلا تستقيم الجُمل. وينبعث، مع المشاهد الأولى، صياح المارة وصفير سيارات الإسعاف.  

ما زالت شيدم تدندن: "أفديك يا وطني البَديع..."، ثم فجأةً تلاشى الصوت في حنجرتها، وحدقت في هذا الشاب ذي اللحية الكثة، وهو يتحرك بشكلٍ عصبي. أيُريد الفِرار أم العودة إلى شاحنته بعد أن اصطدمَت بحافلة مدرسية؟ نظرت إلى البندقية التي يُهدد بتصويبها، وابتسامةٌ بلهاء تعلو وجهَه المُتوتر. أمعنت النظر، فلم تُصدق عَيْنَيْها. وحين تأكدت، جَمَد الدم في عروقها، وتاه ذهنُها عن كلِّ شيء، أصداءُ نائية ما تزال تتجاوب طيَّهُ: "ستبقى لَنا وإلى الأبد...". إنه زوجها سيف الله.

وبعد لحظاتٍ، انطلقت من الشاشة صرخةٌ مدويَّة، لم تستَبن مأتاها، كأنها ترجيع صوته، ومن فظاعتها، كادت أن تخترق شُقتَها الوادعة. أعقبها طلقٌ ناري، أصاب زوجَها، فتَكَوَّم على بطنه، وسقطت من يديه البندقية الصغيرة، محدثة صوتًا شبيها بأزيز ارتطام جسمٍ بلاستيكي. لم تثبت عيناها على الشاشة. شرَد الفكرُ منها وشُلَّت النظرات...

تعيش مع سيف الله من خمس سنواتٍ، ولكنها تعرَّفت عليه في طشقند، منذ عقدٍ مضى، حين كانا طالبيْن، في السنة الأولى والوحيدة بكلية الرياضيات. كان مولعًا باللوغاريتمات. وكانت تعرف والدَيْه جيدًا: ماركسِيان حدَّ النخاع، لا يؤديان الصلاة، والدِّين، عندهما، أفيونٌ واغتراب. أحاديثهما بقايا آلة الشيوعية، وصفيحها البارد، قبل أن تلفظَ أنفاسها الأخيرة. كان زوجها حانقًا على الحكومة السوفياتية حين كان مراهقًا، يتطايرُ قرفًا من دعايتها، رغم أنه لم يعايشها. انتقلت إليه كراهية السوفيات عبر حكايات جده تَيمور، الذي كان يروي له، في ليالي الشتاء الثلجية، كيف فرض الروسُ الشيوعيةَ دِينًا، ومنعوا "صحيحَ البخاري"، وجففوا ينابيع الذاكرة، وأسالوا، بَدل مائها الصافي، الدمَ الثوري. حمل الروسُ الناس على استبدال أبواب "الصحيح" بـفصول "رأسمال" ماركس و"إمبريالية" لينين. كما كان حانقًا على أبويْه اللذيْن خانا مزارات خوارزم، وقرونًا من خشوع العلماء وطيبة أتقياء الأوزبك، بجلابيبهم الزاهية وعمائمهم الناصعة.

 في شقتهما بتامبا، كان سيف الله يستعيد كلام جدِّه ولا يتبناه، بل كان أحيانًا يعارضه، ويمتدح أبَوَيْه. فتيقنت أنَّه يعيش أعراض "تَداخلٍ زماني": لا يسكن حاضِرَه، ولا ينتمي إلى ماضيه، يجوس بوعيه خلالَ مروج طشقند وأحياء نيويورك. استقرَّ في تامبا من سبع سنواتٍ، ولكنه حافظ على العِمامة الأوزبكية، يعتمرها في البيت، كما ظلَّ مولعًا باللوغاريتمات، تلك التي صاغها الخوارزمي، ومنه أخِذَ اسمها الانجليزي.

 بعد استقراره في تامبا، تحسنت إنجليزيته كثيرًا، إذ كان بالكاد يعرف منها عباراتٍ مُفرَّقة. وصار قادرًا على التحدث بها مع راكبي التاكسي، في شركة "أوبر" التي عمل فيها. هاجر إلى أمريكا بضربة حظٍّ ، واحتمالات أوراق اليانصيب، فلم يأت لتحقيق "الحلم الأمريكي"، ولا سعيًا للثراء، بل فرارًا من كثافة التاريخ وبَهجة المزارات.

للحظاتٍ عابرة، كانت شيدم تتساءل حين تلاحظ تغيرًا في سلوك زوجها، وميلَه المتنامي إلى العزلة. وتحتار حين تراه يطالع صفحاتٍ عن ألق العمران في أوبكستان. وتَعجب أكثر حين تراه يراجع خطابات لينين، تائهًا بين غواية الثورة، وسكينة الروح، وهو يجوب طرقات فلوريدا التي لا تهدأ. ثم تخوفت قليلاً حين أطلق لحيتَه، من شهريْن. "أريد أن أتَشَبَّه بماركس وانجلز، أشرفتُ على الثلاثين، وبت أحلُم بمَجد السوفيات. لم أعد أحتمل هذه الليبرالية الوحشية التي يُسوِّق لها الأحمق ترامب. يستخدم لوغاريتمات خوارزم لفرض سيطرة أمريكا على الشرق".

كانت شيدم تسمع تعليلاته على مضضٍ، ولا يقنعها كلامه الذي صار، في الأشهر الأخيرة، مُبهمًا وغير متسقٍ. ينقصه خيطٌ ناظم، رغم هيمنة الحَنق عليه. ثم ما لبثت أن تعودت عليه، بل لم تعد تكترث لنَزَوات فكره، فإيقاع الحياة اليومي في فلوريدا جُنوني، لا يرحم. وليس إطلاق لحية أو حَلقها مما يُنسي ضغوط شوارعها الصاخبة، وناطحاتها الضخمة، أو الاعتناء بالصغيرة لالة، ذات العيون الخُضر المشعة. يتقاضى سيف الله، كسائق شاحنة تجارية، لدى شركة "هيوم ديوت" راتبًا ضعيفًا. صاحب العمل استغلالي بَشعٌ. وقد تضطر هي للاشتغال نادلة، بضع ساعاتٍ في الأسبوع، للمساعدة في تسديد مصاريف الحياة الباهظة.

جمدت عيناها أمام الشاشة التي تنقل على المباشر. ثَبتت الكاميرا على شاحنة الدهس. أخبرني، من ثلاثة أيامٍ، باكتراء هذه الشاحنة. وعدني بالتجول مع لالة في منتزه إيفرغليدز، نهاية هذا الأسبوع. بالأمس، لما ذهبنا لمرافقة الصغيرة، تجولنا في شوارع تامبا وكانت عيون لالة تتقد حبورًا، وهي تشاهد واجهات المَتاجر وامتداد الناطحات.

حَدَّقت شيدم في الشاحنة، وفي زوجها العصبي. البندقية التي يشهرها هي بلا شكٍّ لُعبة ابنتهما، هي بعينها، بشكلها ولونها. سألته يومَها: "لماذا تشتري بندقية لِالة، هذه لعبة صِبيان؟ الأحرى أن تشتري لها دميةً أو سيَّارة؟ ما حاجة بِنت، ببراءة لالة، إلى بندقية؟ لحظات كأنها دَهرٌ: ذكرت خلالها أيام الجامعة ومقاعدها في حديقة طشقند حين كانا يتحادثان حول "رأسمال ماركس" وقد عَدَّاه من حماقات التاريخ. وردت للتو تغريدة ترامب: "إرهابي نيويورك قتلَ ثمانية أشخاص وأصاب 12 آخرين بجروح بالغة. يجب أن تكون عقوبتُه الإعدام".

في روضة الأطفال المجاورة، ظلت لالة تنتظرُ والديْها، حتى الساعة الخامسة ولم يأت أحدٌ. جاءتها المديرة واجمةً ومعها شرطية: تلألأت عُيونها الخُضرُ، وَفاضت براءةً ووداعةً. بصوتها الملائكي، ظلت تَسجع بكلمات نشيدها الوطني: "أيتها البلدان الذهبية، عزيزتَنا...". يتوقف المذيع لينقل خطاب عمدة منهاتن: "منفذ العملية سيف الله سايبوف....".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم