الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

كتاب - "غرفة أبي" لعبده وازن الرغبة خيط أريان المقطوع والشعر استبدال الأب بعاشق الأم

روجيه عوطة
A+ A-

يكاد "الأب"، الذي يكتبه عبده وازن في روايته "غرفة أبي" (منشورات ضفاف-الإختلاف)، لا يكون أباً، أو شخصاً، البتة. إذ لا يمكن القطع في حضوره أو في غيابه، ولا سيما أن ابنه، عبده وازن، يثبته في رسالة أوتوبيوغرافية طويلة، لا نعرف إن كانت سيرة الأب، أو الإبن، أو شخص ثالث، ولد ومات في الحين نفسه. تماماً، مثل الإبن البكر لأسرة الكاتب، الذي "مات لحظة ولادته".


المؤكد، أو البائن، أن الكاتب يتوجه إلى أبيه من حجرة الفقدان، محوّلاً إياه "الأب"، الذي لا يبارح "غرفته"، لأن أسرته، وفي مقدمتها ابنه، لا تغادرها، بل تمكث طوال الوقت داخلها. تالياً، ثمة مكانان في رواية وازن، أي نصّان متداخلان، متطابقان لغاية السرد، الذي لا يصبح ذاتياً بسوى استحالته أبوياً.
وعليه، لا مسافة بين "الإبن" و"الأب". مسافة تتيح للإثنين مشاهدة أحدهما الآخر. ذاك، أن العين السردية تتألف من محجر بنوي وإبصار أبوي، وهذا ما يفضي إلى أمرين. الأول، أن نص الرواية لا يرسو على بنية محسومة، بحيث أنه يتأرجح بين رغبتين متعارضتين. فهو يبدو، وهنا الأمر الثاني، على حال من التأرجح، نتيجة حضور الأب كغائب، أو غيابه كأنه حاضر. وقد يكون استفهام الإبن في نهاية "الغرفة"، إن كان يخطّ رسالة أو يكتب "مونولوغاً"، بمثابة محاولة ذاتية من أجل استواء السرد على وتيرة مستتبة، تشعره بالخروج من "المتاهة" التي لا تتوقف عن التجوف والتدهلز، على رغم تقادمها "الأسود والأبيض".
الحق أن السرد لا يستقر سوى في لحظة الغياب الأبوي، الذي لا تشوبه أي إشارة من إشارات الحضور. فحين يسترجع الإبن لحظة ملامسته فخذ فتاة، يصير سرده، وقبله جسده، مكمناً للذةٍ تفضي به إلى خارج "الغرفة". هي على هذه الحال، لأنها تشبه "خيط أريان"، الذي يسمح للعالق في الفقدان، أن يستبين ذاته. لذا، تبدو سيارة "السرفيس"، التي جلس فيها عبده مع أمه وإبنة جيرانه، كأنها رد رغبوي على السؤال الذي يسبق مشهدها: "إلى أين قدتني أيها الأب؟". فالتاكسي علامة الرغبة، التي تعرف وجهتها بمعزل عن البحث في المكان الأبوي، الذي، على عتبته، يحيا الراوي تنازُعه الجواني بين "الشبق" و"التأنيب".
في السياق "الأرياني" عينه، يندرج مسعى وازن السردي إلى الشعر وإلى التذكر التأريخي. إذ يلجأ إلى الكتابة الشعرية، متفلتاً من لغة الفقدان، التي يتكلمها "الأب" في حضور إبنه. الأخير، يستعيد ذكرى الشاعر سليم مكرزل، واضعاً إياه، عن قصد أو بدونه، في مقابل أبيه: "هل يرث الإبن عاشق أمه؟ هل ورثت عنه الشعر الذي استيقظ فيَّ باكراً؟". كأن الراوي يحاول تأليف صورة، تقترن بأمه، وتسدّ نقصه الذاتي، لا ليصير الشاعر أباً، بل كي يصبح الأب قاطعاً في غيابه. كما يهدف وازن بسعيه الشعري إلى تخدير الغائب، وتركه يغفو على سرير الخشب الكبير، وبالقرب من الخزانة ذات القشرة اللامعة. فالشعر، بحسب الرواية، هو استبدال الأب بعاشق الأم، وتنويمه في "الغرفة"، الذي يظل بابها مفتوحاً في كل صفحة من صفحات السرد.
ومثلما يركن إلى الشعر كي يخدر "الأب"، ينحو وازن إلى التذكر التأريخي، كي يخلص ذاته من وطأة الغياب عبر تمتين علاقتها مع الزمن العمومي. ذاك، أن الأخير، ممثلاً ببعض الأحداث الأساسية في لبنان، على صعيد السياسة، ومستوى الإجتماع، في مقدوره أن يخفف من حمّى الفقدان، ويدرج فانتسماتها في سياقات موضوعية، تتعلق بشوارع بيروت، وتبدلاتها العامة، أو التفصيلية، كمقتل فكتور عواد، وهو أشهر قاتل عرفته المدينة في أربعيناتها، على درج من أدراج الجميزة.
إلا أن السرد التذكري هذا، لا يخرج الإبن من "الغرفة"، بسبب استحالته، في الكثير من الأحيان، معلومات تاريخية، ينقلها الراوي إلى أبيه، علّه يظل على قيد الدوام. كما لو أن الإبن، بهذا الفعل، لا يرغب في الشفاء من أبيه. ربما لأنه يستدخله، حتى يصبح هو أباه، ولا سيما أنه يكبره في السن. فالأب المستبطن، يستحيل مع الوقت إبناً صغيراً، في حاجة إلى رعاية مستمرة. لكن، وفي كل الأحوال السردية، لا يريد الراوي سوى الكشف عن لغز واحد، هو طريقه لمبارحة "الغرفة"، وإقفال جميع أبوابها: متى توفى الأب؟ وبذلك، يحل النص مكان شاهدة قبره.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم