الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

كيف تحقّق العدالة فلسفياً في الانتظام الاجتماعيّ والسياسيّ؟

المصدر: "النهار"
كيف تحقّق العدالة فلسفياً في الانتظام الاجتماعيّ والسياسيّ؟
كيف تحقّق العدالة فلسفياً في الانتظام الاجتماعيّ والسياسيّ؟
A+ A-

تعقد اللجنة الفلسفيّة في المعهد العالي للدكتوراه (الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، الجامعة اللبنانيّة، سنّ الفيل) مؤتمرها الفلسفيّ الثالث (الجمعة والسبت في 3-4 تشرين الثاني 2017)، وقد أسلكته سبيلَ التبصّر في مسألة العدالة في الانتظام الاجتماعيّ والسياسيّ العربيّ. يقينُ اللجنة أنّ المجتمعات العربيّة تحتاج إلى تطوير مداركها لقضايا العدالة في بناء الاجتماع الإنسانيّ المعاصر في قرائن العالم العربيّ. وما من سبيل أشدّ تطلّبًا واستنهاضًا من سبيل التفكّر الفلسفيّ في هذه القضايا التي أشكلت على الوعي العربيّ الفرديّ والجماعيّ. فالإنسان العربيّ المعاصر يدرك بالفطرة أنّه مظلومٌ ومحرومٌ من أبسط حقوقه، لكنّه لا يقوى في أغلب الأحيان على تشخيص أسباب الظلم والحرمان. فالعدالة، قيمةً أساسيّةً في الحياة، تقتضي لها ضمّةً من التشريعات الدستوريّة الناظمة والأحكام القانونيّة الضامنة والبنى السياسيّة المؤاتية والقابليّات الذهنيّة الملائمة التي تفتقر إليها وإلى تأوّلها تأوّلًا صحيحًا وتطبيقها تطبيقًا سليمًا معظمُ المجتمعات العربيّة. علاوةً على ذلك، فإنّ الذهنيّة العربيّة السائدة ما فتئت تتناول أحوال الاجتماع السياسيّ والاقتصاديّ العربيّ تناولًا بدائيًّا يحرم الإنسان العربيّ من إمكانات التنشئة النبيهة والاستثمار الفطن والتنمية الحصيفة الراشدة. 

جريًا على العادة في تناول القضايا الإنسانيّة تناولًا فلسفيًّا شاملًا، ارتأت اللجنة الفلسفيّة في المعهد العالي للدكتوراه أن توزّع إشكالات العدالة على محاور أربعة. المحور الأوّل يستخرج خلاصة الآراء الفلسفيّة (اليونانيّة والوسيطيّة والحديثة والمعاصرة) التي ساقها الفلاسفة في بناء مفهوم العدالة. وهو محورٌ تأصيليٌّ يجدر استثمارُ مكتسباته في تعيين مقاربات المحاور الأخرى. فإسهامات الفلاسفة، على تعاقب العصور الفلسفيّة، تنطوي على بناءات نظريّة قادرة على صياغة مفهوم معاصر للعدالة يراعي أصول التوفيق بين القيَم الإنسانيّة المشتركة العليا، وشروط الانتماء الثقافيّ الاجتماعيّ المحلّيّ، وطبيعة الموارد الجغرافيّة الاقتصاديّة الموضعيّة. المحور الثاني يستعرض تصوّرات الفكر العربيّ الحديث والمعاصر ويتناول إسهامات بعض الفلاسفة العرب الحديثين والمعاصرين الذين راعوا أصول التوفيق هذه، فأخذوا يتفكّرون في مسألة العدالة في قرائنها العربيّة، مجتهدين في استدخال إسهامات الفلسفة السياسيّة الغربيّة في قرائن البيئة الثقافيّة العربيّة المحلّيّة. المحوران الثالث والرابع هما من أشدّ المحاور إجهادًا للفكر لأنّهما يعالجان مصائر العدالة في قرائن الانتظام الاجتماعيّ والثقافيّ والسياسيّ والاقتصاديّ العربيّ المعاصر. ومن ثمّ، يسعى الباحثون في هذين المحورين، وهما من أهل التخصّص القانونيّ والدستوريّ والسياسيّ والاقتصاديّ، إلى استجلاء وجوه الإصابة والإخفاق في تأصيل العدالة العربيّة المعاصرة تأصيلًا نظريًّا مؤاتيًا لأحوال الاجتماع العربيّ ومؤاتيًا لكيفيّات الاقتبال العربيّ المعاصر. ويسعون أيضًا إلى اقتراح بضعة من السبُل القانونيّة العمليّة التي تمكّن المؤسّسات القانونيّة والدستوريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة العربيّة من تحقيق العدالة تحقيقًا عمليًّا ملموسًا في حقول التربية والتنمية والإنتاج والترقّي.


المحور الأوّل: العدالة في مداركها الفلسفيّة القديمة والمعاصرة

المحاضرة الأولى: العدالة في سياقاتها وبناءاتها الفلسفيّة الإغريقيّة الأولى (د. أسعد بتدّيني)

ينظر هذا البحث في تطوّر فكرة العدالة عند اليونان وتحديدًا عند أفلاطون وأرسطو مع عدم إغفاله المدارس القورينائية والأبيقورية والرواقية باعتبار أنّ خير ممثل للهيلّينية وحتى للهيلّينيستية هما أفلاطون وأرسطو. وفي نطاق هذا التحرّي الفلسفيّ، يُظهر البحث كيف رسم أفلاطون تطوّر نموذج النظام العادل وكيف وضع فرضيّتين رفع عليهما بناء نظام العدالة وهما: فرضيّة التمايز الأنطولوجي وفرضيّة وجود الجواهر المطلقة، ممّا يُفضي به إلى الإشكالية التالية: هل ثمة إمكان لقيام نظام العدالة؟ ولماذا لا تقوم العدالة إلّا إذا حكم الفلاسفة؟ أو إلّا إذا تفلسف الحكّام؟ ولماذا تسقط العدالة إذا حدث العكس؟ وأخيرًا يتناول البحثُ ميتافيزيقا أفلاطون فيسأل هل استطاعت تبرير قيام حكم العدالة بالنسبة إليه.

أمّا عند أرسطو فإنّ العدالة تجد تبريرها في نظام فلسفته السياسية. ومن ثمّ، يمكن أن يُسند إلى أرسطو أنّه أوّل من ميّز جليًّا بين جهتين أصليتين للعدل: العدل السياسي والعدل القانوني.

المحاضرة الثانية: العدالة في سياقاتها وبناءاتها الفلسفيّة الوسيطيّة المسيحيّة والإسلاميّة (د. جيرار جهامي)

لا نفهم بناءات العدالة وسياقاتها في الفكر الوسيط إذا نحن تجاوزنا أطرها الدينيّة والفكريّة معًا. فهي ترتبط بالفرد والمجتمع، بالعقل والشريعة كما بالفعل وأحكامه الزمنيّة والروحيّة. فالعدالة في المسيحيّة تنطلق من مبادئ إيمانيّة، يظهر فيها الله، من خلال تعاليم المسيح، فاضلًا نزيهًا عادلًا، يحاسب الإنسان على أفعاله ثوابًا أو عقابًا. ممّا يفسّر محضَه حريّةَ الفعل ومن ثمّ حمله المسؤوليّة. بذا تقوم المشاركة بين القانون الأزليّ وفرائضه والقانون الزمنيّ وتشريعاته. إنه التفاعل بين القوانين الكنسيّة وتلك الوضعيّة. وما علينا سوى العودة في هذا الصدد إلى مواقف أغسطينوس والأكوينيّ التي عكست ضرورة التقريب والتشارك بين القانون الإلهيّ والحق الطبيعيّ التي تُبلوره القوانين الوضعيّة.

أمّا العدالة في الإسلام فهي صفة إلهيّة، إذ اندرج العدل بين أسماء الله الحُسنى. وإنّه تعالى لا يميل به الهوى إلى الجَوْر، بل هو يدعونا بإلحاح إلى الارتداع عن المحظورات واجتناب الكبائر. وهذا ما عناه أصحاب الاعتزال بالعدل الإلهيّ المطلق الذي يتمايز ويتعالى على العدل الإنساني النسبيّ. وهكذا يصحّ تطبيق مبدأ الثواب والعقاب يوم الحساب، إذ المسؤوليّة الإنسانيّة قائمةٌ على الفعل الحرّ والعقل الفاعل. وقد أرسى فلاسفة العرب، كالفارابي وابن رشد، قواعد بناء الدولة على الفضائل ومنها العدالة، وحذّروا من فقدانها لأنّها تؤدّي إلى انهيارها.

تطوَّر مفهوم العدالة في الفكر المسيحيّ عند انتقال الحكم الملكيّ إلى جمهوريّ. فارتدى طابعًا اجتماعيًّا سياسيًّا منفكًّا من الدين ومتجلّيًا في القوانين الوضعيّة. أمّا في الإسلام فما زالت العدالة مرتبطة بالشرائع السماويّة مع محاولة دمجها لدى بعض النهضويّين بالدساتير الديموقراطيّة التي تقوم عليها الجمهوريّات.

المحاضرة الثالثة: العدالة في سياقاتها وبناءاتها الفلسفيّة الغربيّة الحديثة (د. باسم الراعي)

يتحرّى البحث عن تطوّر مفهوم العدالة في الزمن الحديث في سياقاته وبناءاته على أساس مرتكزات تقليديّة وُضعت لهذا المفهوم. فبرز بقوّة مفهومٌ للعدالة نقلها من حصر مرتكزاتها في حيّز العلاقات المباشرة بين البشر إلى العلاقات في إطار مجتمعيّ، أي إلى شروط إمكانها قانونيًا بشكل يحدّد الحق والواجب. وقد فاز هذا التطور فوزًا مبينًا، إذ صار يشكّل اليوم قاعدةً يستحيل تجاوزها في أيّ نقاش في شأن العدالة. هكذا أمّن هذا الفهم للعدالة في الزمن الحديث الانتقالَ بالمرتكزات التقليديّة للعدالة من مفهومٍ بسيطٍ للعدالة، إلى مفهوم أكثر تعقيدًا وسياقيةً، يتطلّب بناؤه إحكامًا دقيقًا حتى يستجيب لمتطلّبات الزمن والتحدّيات المجتمعيّة. فأعطى تلك المرتكزات ترجمةً فعليّة تختصر بالمساواة القانونيّة، وبالحرية الخاصة بالمواطنين، وبالمشاركة الديموقراطية، وبالمساواة في الحظوظ، والعدالة الاقتصادية التوزيعية.

هذا التطوّر تنسلك فيه اليوم وتستند إليه مجملُ النقاشات الفلسفيّة في شأن العدالة، بحيث إنّ كلّ نقاش يتوسّع في ناحية أو يعارض أخرى، لكن لا أحد يتجاوز ثبات الأنموذج الذي أرساه النقاش في الزمن الحديث.

المحاضرة الرابعة: العدالة في سياقاتها وبناءاتها الفلسفيّة الغربيّة المعاصرة (د. سايد مطر)

يرمي هذا البحث إلى عرض نظريّات العدالة الاجتماعيّة والسياسيّة المعاصرة. وتتصدّر النظرية الليبيرالية الرولزية (جون رولز) باقي النظريّات باعتبارها الحدث الفكريّ الأبرز الذي أسّس للفلسفة السياسية المعاصرة. وترسم نظرية رولز معالم الفصل بين نظريات السياسية التعاقدية الحديثة التي هيمنت قرابة عقدين من الزمن ومسعاها كإعادة صياغة للتقليد السياسي الحديث، وكإعراض صريح عن النفعية، في مؤلّفه الشهير (Theory of Justice). وما لبث أن نشأت منذ ثمانينات القرن العشرين تيّارات فلسفية آثرت أن تتباين في تعريفها المبادئ الأخلاقية والسياسية والنظرية الرولزية. وكان نقد المذهب الجماعاتي من أبرز الانتقادات التي وُجهّت إلى الفلسفة الرولزية. لأنها باعتمادها الحياد السياسي الليبيرالي التقليدي، باتت لا تُعنى بمقتضيات الجماعة التاريحية وخصائصها الثقافية كمستند أساسي تهتدي به المجتمعات البشرية والأفراد. وما الانهمام الجماعاتي، على وجه العموم، سوى إعادة الرابطة العضوية بين الحرية الديموقراطية والتقليد إلى الواجهة الفلسفية في زمن معاصر أخذت تهيمن فيه الفردانية المنهجية.

هذا على الصعيد الثقافي. أمّا على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، فقد لاقت نظرية رولز معارضة لا تهدأ من الليبيراليين المتطرّفين (نوزيك وحايك وفريدمان). فاعتبر هؤلاء المفكّرون، استنادا في أغلب الأحيان إلى العقيدة الليبيرالية الكلاسيكية، أنّ الفلسفة السياسية الرولزية، من بعد أن وضعت المساواة التوزيعية في المقام الأوّل، عادت لتتعارض ومرتكزات الحرية الإنسانية (التي وضعها رولز في الصدارة) كامتلاك الإنسان لذاته ولخيراته على الإطلاق. كما أنّ النقد الجماعاتي، وخصوصا الساندلي (مايكل ساندِل)، سيتحرّى عن أخطار الليبيرالية، في شقّيها المعتدل والمتطرّف، في إضعاف وحدة الجماعة التاريخية وتماسكها السياسي من جرّاء تنامي الفردانية التي عزّزتها حرية السوق. ولمّا كان السوق لا يقوّم التفضيلات والتذوّقات الفردية، كانت كلّها متساوية، النبيلة منها والرديئة، بوصفها قيمًا أخلاقية تعتريها النسبيّة. وهو ما يفسّر إفساد السوق لمختلف العلاقات الاجتماعية وإرجاعها كلّها إلى المادّيات.  

المحور الثاني: تمثّلات العدالة في الفكر العربيّ المعاصر


المحاضرة الخامسة: العدالة في العصر الإصلاحيّ العربيّ. الطهطاوي نموذجًا (د. تغاريد بيضون) 

لا يمكن رصد تعريف علمي وشامل وجامع لمفهوم العدالة بسبب تقاطعه مع مختلف العلوم الانسانية، من سياسية وفلسفية وعلم كلام وفقه وعلم إجتماع وتشريع وإصلاح. ويتّضح ذلك من ثنايا النصوص العربية التي وضعها مهتمّون بتحديث المجتمعات العربية. لهذا يُعدّ اعتبار العدالة نقيضا للجور والظلم على بساطته ويسره مخرجًا.

ولئن اعتبرت معضلة التساؤل المؤرق حول الاصالة والتجديد أو حول التراث والتحديث الاشكالية الأكثر جذبًا في الفكر الاصلاحي في القرن التاسع عشر، فإن التصدي لها اخذ في الاعتبار المسار الذي قطعه مفهوم العدالة. هذا المسار المتّسم بروح الإيمان عند كل من المسلمين والمسيحيين خضع في فترات مختلفة إلى رؤى فكرية من مثل اليونانية او الرومانية، لم تخرج عن اعتبار العدالة فضيلة ذات طبيعة فردية داخلية.

عالج الإصلاحيون في القرن التاسع عشر يتقدّمهم الطهطاوي اسباب الهوة القائمة بين بلادهم والغرب. فأظهروا اتفاقا على ضرورة الأخذ بالعلوم التطبيقية والقوانين التي تحكم مسار المجتمعات الغربية واحتلت مسألة العدالة الأولويّة باعتبارها أساس الفضائل التي ينعم بها الفرنسيّون، الامر الذي تمخض عن أسئلة من نوع جديد، أهمّها يتعلّق بدور الشريعة الإسلامية ومآلها إذا ما تمّ الأخذ بالقوانين الغربية؛ وعمّا إذا كان بالإمكان ان يتمّ الإصلاح على أنقاض الشريعة؛ وأسئلة أخرى.

بطبيعة الحال لم تكن الإجابات سهلة لكنها جاءت متسقة مع المنشأ الذي نشأ عليه الطهطاوي والذي لم يجد بإزائه فرقا بين جوهر الدين الإسلامي وأسس الحياة الغربية، مما دفعه للاهتمام بتحليل الأسلوب التقليدي القائم على مبدأ التغيير اللغوي. فعبر عن المكاسب الغربية بمفاهيم إسلامية، من قبيل اعتبار لفظ الشورى مرادفا للديموقراطية وكلمة العدالة مرادفا للحرية التي يتسم بها القضاء.

وإذ غاب أيّ دحض او تقعيد او عمل لأيّ تبنٍّ لمنظومة عقلية تجذيرية، فقد حصرت المهمّة بالاجتهاد الفقهي مما يثير إلى الآن قضايا اهمها قدرة الشريعة المقيدة بالنصوص على مواكبة التشعب وحاجة الشعوب العربية والاسلامية التي لفحتها رياح التطور الهائل الذي يعصف بالعالم اليوم والذي يجعل من العدالة قضية حياتية تشمل الاقتصاد والسياسة والتعليم والزراعة وتوزيع الثروات.

القائمة تطول وخصوصاً في ظل الأطروحات المتفاوتة الاحكام التي تثيرها ايضا وايضا الشريعة الإنسانية.

المحاضرة السادسة: نقد الاستبداد. الكواكبي نموذجًا (د. عفيف عثمان)

يجمع الباحثون العرب على إدراج السوري عبد الرحمن الكواكبي (1855- 1902) الحلبي النشأة في خانة رجال الإصلاح المعروفين في عصر النهضة، الى جانب محمد عبده ورشيد رضا ورفاعة الطهطاوي، الذين تعرفوا عن كثب على أفكار عصر التنوير الأوروبي، لكنهم يختلفون بإزاء دعوته، حول ما إذا كان داعية وحدة دينية هي الوحدة الإسلامية أم داعية للقومية العربية.

بدأ ابن حلب الشهباء في الصحافة لينتهي كاتبًا. له "أمّ القرى" و"طبائع الإستبداد ومصارع الاستعباد" وكتابات أخرى فقدت. وقد رغب الكواكبي في كتاب "أم القرى" النظر في أسباب "الفتور" في الأمّة وعلّل "تقهقر الإسلام". ولهذا الغرض اجتمع مع سراة من بلاد المسلمين في مكة لتداول الأمر، مؤدّيًا دور الرئاسة.

وأراد من كتابه الثاني الأشهر في شكل عام، والذي هو موضوع البحث، "بيان طبائع الاستبداد وما يفعل، وتشخيص مصارع الاستعباد وما يقضيه ويمضيه على ذويه" ، من دون أن يعني حكومة بعينها، وكله أمل في فتح "باب صغير من أسوار الإستبداد، عسى الزمن يوسعه". لذا، يخوض السيد الفراتي (الاسم الذي كان يستخدمه أحياناً للكتابة) في تشريح كامل لعواقب الإستبداد، وآثاره في الدين والعلم والمجد والمال والأخلاق والتربية والترقي. ومن ثم يُقدّم بعد ذلك النصح في كيفية التخلّص من الاستبداد ذي الآثار الكارثيّة، مستفيدًا من التاريخ الطبيعي ومن الاستقراء.

يجعل الكواكبي الإنسان مسؤولًا عن مصيره، ويجعل من الجهل "سبب كلّ علّة"، وهو متفائل بأنّ انحلال السلطة (المطلقة) يؤدّي الى رفع التغالب، "فيسود بين الناس العدل والتوادد، فيعيشون بشراً لا شعوباً". ويأمل في زمن أفضل يعرف فيه الإنسان معنى "الحياة الطيبة" التي تتوازن فيها مطالب الجسد والروح المتغذية من الفضيلة، وحينئذ "يتسنّى للإنسان أن يعيش كأنَّه عالم مستقلٌّ خالد، كأنَّه نجمٌ مختصٌّ في شأنه، مشتركٌ في النظام، كأنَّه ملكٌ، وظيفته تنفيذ أوامر الرحمن الملهمة للوجدان"، على ما يختم في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد.

المحاضرة السابعة: الحرّيّة والعدالة عند العروي: (د. أنطوان سيف)

لم يخصّص عبدالله العروي لمفهوم العدالة كتاباً بكامله كما فعل في معالجته المفاهيم الخمسة: مفهوم الإيديولوجيا (الأدلوجة)، ومفهوم الحرية، ومفهوم الدولة، ومفهوم التاريخ، ومفهوم العقل. إلاّ أنَّ كلامه على العدالة موزّع في سائر مؤلّفاته، وليس دائماً مباشرةً وبصريح التسمية، ما يبيح لنا اعتبار هذا المفهوم، بمعانيه الواسعة، هو عنده الخلفيّة المضمرة لعديد من المقولات والمفاهيم، وهو تالياً لا ينفكّ عن مفهوم الحرية. في مطلع مقدّمة كتابه "مفهوم الحرية" (1981)، يقول منبّهاً قارئه: "إننا لا نبحث في مفاهيم مجرّدة لا يحدّها زمان ولا مكان، بل نبحث في مفاهيم تستعملها جماعة قومية معاصرة هي الجماعة العربية". هذه الإشارة التوضيحية إلى المنهجيّة التي اختارها في مقاربته المفاهيم، المنحازة صراحةً إلى العلوم الاجتماعية والمجتنِبة لغةَ المفاهيم المجرَّدة الفلسفيةَ الشائعة والرافضةَ لها، تنسحب على كل المفاهيم التي عالجها، ومنها مفهوم العدالة المتداخل والمتلازم مع مفهوم الحرية بمعانيها الاجتماعية-السياسية الراهنة في الإطار العربي للواقع المجتمعي التي تظهر كشعارات في النشاط القومي، "رافضين البدء بمفاهيم مسبَقة نحكم بها على صحة الشعارات"، قبل أن "نحوّلها إلى مفاهيم معقولة". هذا الموقف المنهجي هو تعبير عن "التاريخانية" التي يعتبرها حاضنة كل الأفكار والمفاهيم في إطارها الزماني والمكاني؛ وهو، ضمناً وصراحةً، رفضٌ للمواقف الفكرية الفلسفية التي تبرز مفهوم الحرية كمطلق، وكقدرة إنسانية على الاختيار غير مشروطة.

فالعرب لا يستعملون الحرية بمعنى واحد. فشعار الحرية الذي يرفعونه يخفي أهدافاً متباينة، ولكن كلّ واحد يعادل الحريةَ بمجموع الحقوق المخوَّلة له، ويفهم من التحرّر انخفاضَ عدد الممنوعات وارتفاع عدد المباحات. فالعلوم الإنسانية والاجتماعية يمكنها أن تقيس مقادير تحرير الفرد بالمقارنة بين الحقب التاريخية، أو من مدى قدرة الفرد على التصرّف في محيطه العائلي والسياسي، أو على التصرّف بجسمه. وفي كلتا الحالين يكون الفرد العربي، في الواقع الحديث ومنذ القرن الثامن عشر، بمطمحه إلى الحرية وتعبيره عنها، في مواجهةٍ مع قوة الدولة المتعاظمة. فالحرية كانت ظاهرة في البداوة والعشيرة والتقوى الدينية أو في التصوّف. ولكن عندما اتسعت الدولة وأصبحت التجربةُ الإنسانية كلُّها تجربةً سياسيةً مرتبطةً أساساً بالدولة، واضمحلَّ نطاق اللادولة، أصبحت الحرية في نطاق هذا الواقع الاجتماعي السياسي التاريخي الجديد المستمر، تعني "فقط عملية تحرير مستمرة". واذا كانت تجربة الفرد جعلته "يعادل الحرية بمجموع الحقوق المخوَّلة له"، فإنَّ احترام هذه الحقوق من الدولة، المرادفَ لعدالة الدولة، غالباً ما يُنتهك من أهل الدولة.

ففي موقف العروي من حقوق الانسان في المغرب (تمَّ تعيينه عضواً في المجلس الاستشاري لحقوق الانسان عام 1990)، والظلم الواقع فيها، وجد أنَّ من أسبابه "التخلّفَ الاقتصادي والفقر الناتج عنه، اللذين يدفعان غالباً الحكام، كيفما كانوا، إلى انتهاك مقتضيات الدستور والكثير من قوانين البلاد". والمواجهة، في المغرب كما في غيره، تكون بين الوطني والإنساني. ومنها كذلك "عدم تأهيل قوات الأمن، وضعف الإدارة... وعلى الرغم من أهمية الإصلاحات لدعم حقوق الانسان ولتأهيل قوات الأمن وأنسنة السجون... فإن وضعيَّة حقوق الانسان (أي العدالة والحرية في مرحلة تاريخية) تظل مرتبطةً بتطور النظام السياسي، وبمدى التقدّم الاقتصادي والاجتماعي. إذاً العدالة والحرية تبقيان رهنَ النظام السياسي المأمول، وبمدى "التقدُّم الاقتصادي والاجتماعي"، وهو عموماً النظام السياسي الاشتراكي، كما وصفه ماركس. إلاّ أنَّ العروي، بخلاف المفكِّرين الماركسيين، العرب منهم خصوصاً، وبخلاف المشاريع السياسية للأحزاب الماركسية، يقترح مرحلةً تمهيدية (ليبيرالية) ذاتَ حريّاتٍ متنوعة في البيئة العربية المعاصرة كمقدمةٍ ضروريةٍ تسمح، لاحقاً، بتحقيق هذا النظام السياسيّ العادل والضامن للحريات! والتاريخانية، هنا أيضاً، يمكن أن تقدم لنا مساهمةً أساسية في نقد الأفكار والمفاهيم حول مدى مزامنتها تاريخها!

المحاضرة الثامنة: العدالة عند ناصيف نصّار (د. بَسكال لحّود)

هل بالإمكان الحديث عن نظريَّة نصّارية في العدل؟ لا شكَّ في أنَّ موضوعة العدل موضوعةٌ محوريَّة وشديدةُ التواتر في نتاج ناصيف نصّار لاعتبارات متعدِّدة أبرزها أنَّه اختار منذ بداياته التكرُّس لبناء فلسفة سياسيَّة أخلاقيَّة، معتبرًا أنَّ عرب ما بعد الهزيمة بحاجة إلى نظريَّة في الفعل لا نظريّة في المعرفة. وطالما أنَّ العدل هو القيمة الملتقى بين الأخلاق والسياسة، فلا غرابة أن يخصَّه نصار بأكثر من وقفة، تتناول تحديده (منطق السلطة)، وسبل إدراكه (الذات والحضور)، وعلاقته بالقيم الأخرى ولا سيما الحريَّة (باب الحرية)، والمحبَّة (الذات والحضور). أضف أنَّ مفهوم العدل محوريّ في كثير من القضايا المعاصرة التي انهمَّ بها نصّار ومنها العلمانية (نحو مجتمع جديد، الإشارات والمسالك)، والحرب العادلة (الذات والحضور).

فهل بالإمكان نظم هذه الإضاءات المتفرِّقة ضمن بناء نظريٍّ موحَّد؟ هذا ما سنحاول تبيُّنه.

المحور الثالث: العدالة في راهنها العربيّ (البُعد الثقافيّ والاجتماعيّ)

المحاضرة التاسعة: إشكاليّة القيَم وتنازعها: العدالة داخل المنظومة القيميّة العربيّة (د. وجيه قانصو)

لا تتّخذ المفردات الأخلاقيّة قيمتها ودلالاتها من ذاتها منفردةً أو معزولةً عن غيرها من القيم، فكلّ قيمة تحدّ غيرها وتتّحدد بها في آن واحد. هذا التحديد المتبادل لا ينبع من تناغم تفرضه طبيعة الأمور أو انسجام يمليه المنطق، بقدر ما هو ثمرة تنافس على مساحات إلزام وصراع على قواعد توزيع بينها، تسم في مستقرّاتها ونقطة التوازن بينها سمة الحياة الأخلاقيّة والسياسيّة لمجتمع من المجتمعات. ما سنبحثه هو حال الإرباك الذي يولّده التعارضُ المستقرّ بين مفهومي العدالة والحريّة في المجال العربيّ، وأسباب التخارج بين الوازع الأخلاقيّ الفردي وانتظامات المجال العام، والبينونة المستقرّة بين تمثّلات الصورة الأخلاقيّة (بما فيها العدالة) وأساس مشروعيّة الدولة ومسوّغات إكراهاتها.  

المحاضرة العاشرة: العدالة والتعدّديّة الثقافيّة في المجال العربيّ (د. أنطوان مسرّة)

 1. تُظهر التعديلات الجديدة في أكثر الدول العربية ومنذ 2010 تجديدًا وتأصيلًا في ما يتعلّق بضمان الحقوق الدينية والثقافية. يحصل ذلك خلافًا لخطاب اجتراري سائد تُعمّمه أوساطٌ جامعية وفكرية وإعلامية حول الدولة الدينية والشريعة والتشريع. لا يعني ذلك أنّ الحقوق الدينية والثقافية مصونة واقعيًّا في المجتمعات العربية، بل يبّين ذلك المسعى في أعلى الهرمية الحقوقية العربية الى تحديث وتأصيل الإدارة الديموقراطية للتنوّع الديني والثقافي. يؤدّي التحديث في المصطلحات والتعابير إلى مزيد من التطوّر مستقبلًا في مسارات العدالة الدستوريّة.

 2. يتطلّب ذلك من الجامعيين والباحثين والإعلاميين والملتزمين في المجتمع المساهمة في هذا المسار من خلال الخروج عن شعارات سائدة ومن الماضي والمساهمة في التحوّل في الذهنيات.

 3. إنّ العبارات الواردة في التعديلات الدستورية في أكثر من 15 دولة عربية حول سيادة الشعب، وسيادة القانون، ومقاصد الشريعة، والمواطنية، والصفة الرسمية لدين الدولة، والتراث الثقافي العربي، ومنع إصدار قوانين تنافي جوهر الحريات الواردة في الدستور كما في المادة 128 من الدستور الأردني المعدّل، تحمل معاني حديثة وتغييرية أساسية.

 4. يتطلّب تحويل هذا التحديث في النصوص الدستورية الجديدة إلى ممارسة عمل ثقافيّ خارج شعارات اجتراريّة لا يزال يتداولها ويُعمّمها مؤلّفون وجامعيّون وإعلاميّون بدلًا من المساهمة في التحديث والتأصيل حول العدالة عربيًّا في مجال الحقوق الدينية والثقافية.

المحاضرة الحادية عشرة: العدالة في المباني التشريعيّة العربيّة (د. غسّان مخيبر)

يستعرض البحثُ دور المجالس التشريعيّة اللبنانيّة والعربيّة في إقامة العدالة بمعرض التشريع، في ضوء أمثلة مستقاة من الممارسة، ولا سيّما قانونا الإيجارات والمحكمة العسكريّة. فبعد مقدّمة تضع هذا الدور في إطار مبدإ الفصل بين السلطات، يناقش البحثُ بعدَين رئيسيّين:

البعد الأوّل ينظر في القاعدة القانونيّة والعدالة المباشرة، وأبرز ما فيه: الظلم والحاجة إلى العدالة والتشريع، التوازن المستحيل بين المصالح المختلفة للأفراد والجماعات والمجتمع، تدخّل أصحاب المصالح والإعلام والرأي العامّ، جودة الصياغة التشريعيّة والشفافية والعدالة.

أمّا البعد الثاني فيتناول تنظيم المحاكم أو العدالة التشريعيّة غير المباشرة، وأبرز ما فيه: التوق إلى استقلال القضاء وفعاليّته وعدالته، تعدّد المرجعيّات القضائية ووظائفها وتخصّصها، إخراج مواضيع من الولاية القضائية، التدخّل السياسيّ في القضاء، الحقّ في الوصول الى العدالة وكلفته.

المحور الرابع: العدالة في راهنها العربيّ (البُعد السياسيّ والاقتصاديّ)

المحاضرة الثالثة عشرة: أيّ ديموقراطيّة للعدالة؟ (د. شفيق المصري)

يتحرّى البحث عن طبيعة الديموقراطيّة التي تستوفي شروط العدالة في العالم العربيّ. الواقع أنّ التساؤل الموضوع كعنوان لهذه المداخل يقع في موقعه الصحيح. وقد كان مثار مناقشات أكاديميّة واتجاهات سياسّية واقتصاديّة عديدة في الفكر السياسي من جهة، وفي الممارسات الحكومية للأنظمة في العالم من جهة أخرى. فهناك مجموعة من هذه الأنظمة المعروفة عادة بالليبيرالية تعتبر أن حقوق الانسان الفرد تشكّل المعيار الأساسي في تعريف الديموقراطية. ولكن مجموعة أخرى من الأنظمة السياسية التي كانت سائدة قبل تفكّك الكتلة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفياتي كانت تركّز على معيار العدالة الاجتماعية لتحقيق الديموقراطية والعدالة معًا.

لذلك أرى من المستحسن توزيع هذا البحث على المحاور الآتية:

- شرح موجز لمفهوم الديموقراطية في الفكر والأنظمة السياسية، ومن ثمَّ تنوّع التعريفات لهذا المفهوم.

- شرح سائد لمفهوم العدالة وأركان توفّرها على كلّ الأصعدة.

- إمكان وجود علاقات بنيوية ووظيفية بين المفهومين.

- اقتراح للتوثيق بين المفهومين والإفادة منهما معًا في ضوء حقوق الانسان.

المحاضرة الرابعة عشرة: عدالة التمثيل الديموقراطيّ في المجال العربيّ (د. صلاح أبوجودة) 

يثير تنوُّعُ مكوِّناتِ المجتمعاتِ العربيَّة، على اختلافاتِ هذا التنوُّعِ الدينيَّةِ والثقافيَّةِ والإثنيَّةِ واللغويَّة، مسائلَ معقَّدةً بشأنِ عدالةِ التمثيلِ الديموقراطيّ. فمن جهة، تبدو تلك العدالةُ على صلةٍ وطيدةٍ بالصيغةِ الديموقراطيَّةِ الأمثلِ وتصميمِ المؤسَّساتِ الدستوريَّةِ المرافقِ إيَّاها، في مشهدٍ عربيٍّ متباينٍ إنْ لجهةِ خبراتهِ الديموقراطيَّةِ السابقةِ والراهنة، وإنْ لجهةِ أنظمتهِ السياسيَّةِ المختلفَة. ومن جهةٍ ثانية، تحتاج العدالةُ نفسُها إلى سُبُلٍ تسمح بتحديدِ مصالحِ مكوّناتِ المجتمعاتِ المختلفةِ في المجالِ العربيّ، وهذا يتطلَّب مقارباتٍ متعدِّدةَ الاختصاصاتِ بغيةَ الإمساكِ بخصوصيَّاتِ كلِّ مُكوِّنٍ من تلك المكوِّناتِ وطرقِ تجلّياتِها والتعاملِ معها، أو أسبابِ كبتِها أو تجاهلِها في أطرِها الخاصَّة. ولكن يمكن أيضًا اعتمادُ مقاربةٍ أخرى لهذا الشقِّ الثاني، وهذا ما سنقوم به في هذه المداخلة، تقومُ على تبنِّي تعميمَينِ يبدوان مساعدَينِ على توضيحِ الموضوعِ الذي نحن في صددِه، بالرغمِ من حدودِ كلِّ تعميمٍ بل وأخطاره في ضوءِ ما تقدَّم.

أمَّا التعميمُ الأوَّلُ فيتمثَّل في السَّعي لتحديدِ سُبُلِ فهمِ مصالحِ المكوِّناتِ التي يُطلقُ عليها عادةً اسمُ "أقليَّات" وتحدِّياتِ تمثيلِها، في إطارِ الديموقراطيَّةِ التمثيليَّةِ بصيغتِها التقليديَّة، أي تلك القائمةُ على الانتخاباتِ الحرَّة، والمداورةِ في السلطة، والتعدديَّةِ ولا سيَّما الحزبيَّة منها، وحقوقِ الإنسانِ وبوجهٍ خاصٍّ حريَّةِ التعبير. أمَّا التعميمُ الثاني فهو اعتبارُ أنْ ثمَّةَ محدِّداتٍ مشتركةً للفكرِ السياسيّ العربيّ. ويمكنُ نتائجَ التعميمِ الأوَّلِ أن تسمحَ بإبرازِ دورِ هذه المحدِّدات إزاءَ متطلِّباتِ عدالةِ التمثيلِ الديموقراطيّ المنشودَة. وفي هذا السياق، ستتمُّ الاستعانةُ بوجهٍ رئيسيّ بأعمالِ محمّد عابد الجابريّ التي تناولَ فيها نقدَ العقلِ العربيّ.

تبقى الحقوقُ الفرديَّةُ التي تضمنُ استقلاليَّةَ المواطنِ وكرامتَه وحريَّاتِه الأساسيَّة المنطلق الأساسيّ للتعاطي مع مصالحِ المجموعاتِ المتمايزةِ عن الأكثريَّةِ في إطارِ النظامِ الديموقراطيّ التمثيليّ التقليديّ، والمقصودُ بها تلكَ المجموعاتُ المختلفةُ عن الأحزابِ السياسيَّة، وتُسمَّى عادةً بالأقليَّات. لكنَّ الحقوقَ الفرديَّةَ غيرُ وافيةٍ لضمانِ مصالحِ تلك الجماعاتِ الأقليَّةِ وتعزيزِها. فمن جهة، قد تكونُ مصالحُ الجماعاتِ تلك متمايزةً عن مصالحِ أعضائِها بصفتِهم أفرادًا في المجتمع، ومن جهةٍ ثانية، ما من ضمانٍ لحفظِ مكانةِ تلك المصالحِ في اتِّخاذِ القراراتِ السياسيَّة. إزاءَ هذا الواقع، قد يبدو المخرجُ البديهيُّ البحثَ عن إعادةِ النظرِ في تصميمِ المؤسَّساتِ الديموقراطيَّةِ التمثيليَّةِ بل وحتّى تعديل الدستور نفسه، على نحوٍ يضمنُ احترامَ مصالحِ الأقليَّات. ولكن ثمَّة مأزقٌ يبرزُ فورًا: ألا يمثِّلُ هذا المخرجُ نسفًا للفكرةِ الديموقراطيَّةِ عينِها، إذ ستسودُ مصالحُ الأقليَّاتِ العلميَّةَ الديموقراطيَّةَ التي تقضي بربحِ مَن يجمعُ الغالبيَّةَ حولَه، وخسارةِ مَن يعجزُ عن ربحِها؟

يرى بعضُهم في نظريَّةِ التعدديَّةِ السياسيَّةِ المثاليَّةِ الجوابَ الأمثَل: ليست الغالبيَّةُ في نهايةِ الأمرِ إلاّ مجموعة مصالحَ أفرادٍ وأقليَّات، وهي مصالحُ متغيِّرة، وتخضعُ للعبةِ التحالفاتِ المتغيِّرَة من أجلِ زيادةِ النفوذِ في القرارِ السياسيّ والوصولِ إلى مواقعِ القرار. ومن الطبيعيّ في سياقِ هذهِ العمليَّةِ الديموقراطيَّةِ أن تطغَى بعضُ المصالحِ على سواها. ولكن هذا لا يعني النهاية؛ فالأقليَّات التي خسرت معركتها اليوم أو على الأصحّ جزءًا من معركتِها، يمكنُ أن تربحَ معركةً أخرى غدًا. لذا، فثمَّةَ مساواة تتحقَّقُ ولو غيرُ كاملة؛ وتصبحُ الأقليَّاتُ جزءًا فاعلاً ولا يتجزَّأ من الحياةِ الديموقراطيَّة التي تتطلَّبُ منها على نحوٍ مستمرٍّ مزيدًا من الفعاليَّةِ والانخراطِ في الشؤونِ العامَّة.


المحاضرة الخامسة عشرة: مفهوم تعادل الفرص في المجال الاقتصاديّ وتطبيقه عالميًّا وعربيًّا (د. جورج قرم)

إنّ مفهوم تعادل الفرص بين أفراد المجتمع الواحد هو من بين أهم المفاهيم ذات البعد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في آن واحد. وهو في صميم نموذج الحداثة الهادفة الى إقامة العدل بين مواطني الدولة ومنحهم إمكان الحياة الكريمة، وهو أيضاً مفهوم يحتلّ وضعاً مركزياً في نموذج دولة الرفاه.

غير أنّ التطورات الفلسفية والاقتصادية في العالم خلال نصف القرن المنصرم أدّت الى شبه زوال المفهوم من الأدبيات والاقتصادية والاجتماعية بسبب انتشار هيمنة الأفكار النيوليبيرالية ذات الصفة الرجعية على المؤسسات الجامعية والأكاديمية والإعلامية اذ اعتمدت هذه الأفكار على مفهوم العولمة الاقتصادية ومقتضياتها، وفي مقدمها ضرورة تراجع دور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وعدم الاعتراض على إعادة تكوين الفروقات الهائلة بين اقلية تكدّس الثروات بلا حدود وتزايد حجم الفئات المحدودة الدخل والفقيرة.

تستعرض المداخلة إمكانات العودة الى تبني أطروحات مضادّة تعيد الى مفهوم تعادل الفرص بريقه وفوائده.

المحاضرة السادسة عشرة: العدالة والمشروعيّة السياسيّة. شرعيّة الدولة (د. طوني عطالله)

العدالة لا يعبَّر عنها إلّا بالقانون. تترسّخ بقوّته وفاعليّته. للعدالة ثلاثة معان رئيسية:

أولاً، مفهوم أخلاقي- قانوني قوامُه العمل وفقًا لمتطلبات القانون وتحقيق التوازن؛ ثانيًا، توزيع متكافئ تطمح به الدولة إلى المساواة بين المواطنين، إذ لم تعد الدول المتحضّرة تكتفي بمبدأ العدالة التوزيعية على قاعدة "لكلٍّ بحسب تقديماته"، بل أدخلت مبدأ العدالة القائمة على قاعدة "لكلٍّ بحسب حاجاته"؛ ثالثًا، تعني أيضًا سلطة القضاء (إحدى سلطات الدولة الثلاث) في الفصل في المنازعات بين الأفراد أو بينهم وبين الدولة والمؤسسات.

كلّ الأديان والمفكّرين البارزين اهتمّوا بمفهوم العدالة، وحاولوا تعريفها. الشرعيّة معناها أن تستند السلطة أو الحكومة إلى سند قانوني تستمدّ منه وجودها (الدستور أو القانون، أو الأعراف، أو الشرائع). وقد تأتي بها ثورة شعبية تطيح ما سبقها وتؤسّس لاكتساب الحكم الشرعية. أمّا المشروعية فهي اكتساب السلطة أو الحكومة رضا غالبية الشعب حتى وإن لم تكن تستند الى أساسات حقوقية شرعية كالدستور او القانون أو الأعراف. ينصّ الدستور اللبناني في مقدّمته التي تتضمّن ثوابت دستورية تتمتّع بقوّة ميثاقية معنوية وتأسيسية تفوق سائر المواد: "الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية (فقرة د). لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك (فقرة ي)".

من الأمثلة على الاختلاف حالةُ لبنان مع قيام حكومتين تتنازعان الشرعية (1988-1990) بسبب تعطيل الاستحقاق الرئاسي في 23 أيلول 1988. وما صدرت في شأنها من دراسات ومناظرات دستورية وفقهية وقانونية لم تساهم في استعادة وحدة الحكومة. جاء اتّفاق الطائف المعروف بوثيقة الوفاق الوطني بعد امتداد نار الحريق وبعد مشاريع عبثية، وما رافق ذلك من أحداث سياسية وأمنية أليمة.

من الأمثلة العربية على المشروعية هو حكم المجلس العسكري في مصر بعد إطاحة الثورة الرئيس حسني مبارك. اكتسب المجلس مشروعيته بفعل رضا معظم المواطنين المصريين عن تولّيه السلطة في مصر. ولم يكتسب الشرعية القانونية لأنّ وجوده لم يكن مستندًا إلى قانون او دستور وإنما إلى رضا شعبي في شكل عام.

اجتماع صفتي الشرعي والمشروع حالةٌ نادرة في الأنظمة العربية. إنها حالة مثاليّة وطوباوية، نظريّة أكثر منها واقعية. ولا سيّما مع وجود اغتراب ثقافي وسياسي وحقوقي. فالشرعية والمشروعية مفهومان مختلفان.

كي تكون السلطة أو الحاكمية مشروعة، يجب أن يكون لها خمس صفات: 1. أن تستجيب حاجات يشعر بها المجتمع؛ 2. أن تستند إلى قيم ومبادئ مشتركة ومعترف بها؛ 3. أن تكون عادلة؛ 4. أن يمارسها على نحو فعّال حكّام مسؤولون هم موضع ثقة؛ 5. أن يتمّ اللجوء إلى مبدأ الحد الأدنى من القيود ووسائل الإكراه.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم