الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

عن الذين اعتزلوا الحياة مردِّدين: مملكتنا ليست من هذا العالم!

المصدر: "النهار"
ريما لبّان (أستاذة جامعية – باريس)
عن الذين اعتزلوا الحياة مردِّدين: مملكتنا ليست من هذا العالم!
عن الذين اعتزلوا الحياة مردِّدين: مملكتنا ليست من هذا العالم!
A+ A-

يتناولون أحداث الساعة، فيحلّلون ويعلّلون ويناقشون. ثم لا يلبثون أن يدركوا أنّ عليهم أن يسيروا قُدماً في تحليلاتهم إلى أبعد من ذلك. فالأسباب التاريخية والجيوسياسية تظل قاصرة عن تفسير هذا الجنون الذي أصاب العالم، هذا الدُوار الذي أصاب النفوس قبل الرؤوس. 

وفرة المعلومات لا بل طفرتها شتّتت الأذهان فغدت تتأرجح بين التوق والكينونة، تتردّد بين صيرورةٍ عقلانيةٍ، حرّةٍ، مغامِرةٍ مُريدةٍ، وتاريخٍ عتيقٍ، عريقٍ، مُتوارثٍ، مستكين.

أتراهم يُمعنون في البحث والتمحيص والتدقيق طارقين أبواباً أخرى، مُطرِقين، سالكين دروب الميثولوجيا والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، ناشدين العلل الأولى لعجز الثواني عن الإجابة. مئات الأبحاث والدراسات تصدر كل يوم في شتّى الميادين في محاولةٍ لتصويب المسارات ومعها النتائج والاستنتاجات، تُقلّب القضايا، تتوسّل بمناهج مُبتدَعة أو تنتحي سبلاً مُقتبَسة من فلاسفة الإغريق ونوابغ عصر الأنوار وحكماء الشرق القديم يقرأها الآخرون فلا يزيدهم اطّلاعهم عليها إلا تيهاً.

حوارٌ لا ينقطع بين الذات والذات، وجداناتٌ كلّت من الثنائيات: الأنا والآخر، الفرد والجماعة، الهويّة والعَولمة، الشرق والغرب، الدين والعلم، التوحيد والشرك، الوطن والأمّة، الدولة والمواطن، الانتماء والمواطنة، التراث والحداثة، الخير والشر...

أفكارٌ واكتشافاتٌ وأطروحات تتوافد إليهم، تتدفّق على مواقع التواصل الاجتماعي كافة، تدّعي العلم بالكيفيّات والحيثيّات بدءاً من نظريات المؤامرة والتآمر الى التنمية البشرية والدورات التدريبية الى الفنغ شوي واليوغا الى منافع الزنجبيل وحبات الغوجي والشاي الأخضر، ناهيك بالحِكم المصوغة بكل اللغات، تعطيك في نقرة زِرّ زبدة الخبرات لألفيات خَلت.

كمٌّ هائل من المعلومات المتباينة، المتناقضة، يتضارب في رؤوسهم المحمومة كالهذيان. يغتابون، يغتالون، يغتصبون الآخر والفكر وآداب العيش والتعايش والحوار. يرصفون الكلام في عبارات منمّقة غابت عنها الأصالة والقناعة والحقيقة... فقط يردّدون. يهيمون في غياهب الوجود كخطأة دانتي في المطهر وسط ضباب كثيف لا يخترقه بصر ولا تبدّده بصيرة. لا تستقيم لهم علاقة ليس قوامها رهبة أو رغبة أو مصلحة... فلا تدوم. أقانيمهم الثلاثة، السلطة والمال والجنس، والسعي في ما بينها. بئس الحجيج. لاهثين يهرولون إلى الشركات والإدارات والمكاتب والمتاجر والمقاهي والملاهي يعقدون صفقات، ثم عن أنفسهم يرفّهون.

في زمن الفرد والفرديّة والطموح وتحقيق الذّات والأنا السعيدة، غابت عنهم "أعرف نفسك" وغاب عنهم "قول الحق".

بعضهم أراعهم ما آلت إليه الأمور فاعتزلوا الحياة واعتكفوا في بيوتهم، ملاذاتٍ آمنة بمنأى عن صخب المدينة ولغط القرية العالمية ولغو هذه المدنيّة مردِّدين:

مملكتي ليست من هذا العالم! مملكتي ليست من هذا العالم!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم