الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

تعليق - حيلة الملثّم البعثي

روجيه عوطة
A+ A-

في لوحة "مذبحة الأبرياء" لبيتر بروغل الأكبر، ثمة رضيع، تحمله إمرأة بين ذراعيها، وتتكور به تحت سكّين أسود يكاد ينحر رأسه. يقف المشهد عند الإحتكاك بين المدية وفروة الجمجمة، فلا يكشط النصل جلداً، ولا يغرز في اللحم، كأن العظم غمده. يثبت القتل في لحظته الأولى، راسخاً في توطئة الوخز، حيث لا تنفذ الطعنة إلى الجسم الصغير، بل تتصلب أمام العين، التي تمعن في وجه القاتل الملثّم، وتستفهم: من هو؟
السؤال هذا ينفي الجريمة التي تستمر في الوقوع حول ذاك المشهد الجزئي منها. عشرات الجنود، يحملون رماحهم، ويضربون بها أجسام العجائز والأطفال. وجوههم عارية، ملامحهم حاسرة، ومن الممكن أن ندرك سريعاً أنهم مأمورون من قاتلٍ مستوٍ على صهوة حصانه. المجرم معروف من الجميع، إلا أن الملثّم، الذي يحمل سكيناً، ويوجهه إلى رأس الرضيع، بدون أن يطعنه، يشدّ العيون إليه، دافعاً إياها إلى غض بصرها عن المجزرة، وعن مقترفها.
الملثّم هو خدعة القاتل، التي تخفي المذبحة بمشهد من العنف الكامن أو المتوقع. ينتظر المُشاهد غرز السكين في رأس الطفل، فاقداً القدرة على تذكّر الجريمة التي تقع في وقت الإنتظار. يستحوذ عليه المشهد المثير، ويشدّه إلى سياقه القصير والمعلّق، فتغيب المجزرة، ويُختصَر هولها بحيلة الملثّم. هكذا، تُرتكَب بعض الجرائم من أجل إزالة آثار جرائم أخرى. الأولى مشمّع لتغطية الثانية، وقناع لفرار المجرم طبعاً. ما تشير إليه لوحة "مجزرة الأبرياء"، تثبته "مذبحة المغدورين" في سوريا. إذ يصوّر الخطاب الإعلامي الجريمة الكيميائية في الغوطتين، كأنها أول مجزرة يرتكبها النظام البعثي، بعد تخطّيه "الخطوط الحمر". غير أن بشّار الأسد سيسلّم سلاحه الفتّاك، وهذا يعني أنه سيعود بريئاً، وسيستمر في القتل مثلما كانت حاله قبل استخدامه غاز السارين. هو المجرم فجر 21 آب فقط. قبل هذا التاريخ، لم يكن قاتلاً. بعده أيضاً. لقد تكثفت كل جرائمه في ذلك الفجر المخنوق، تكثفت كي تزول، لا كي يُقبَض عليه ويُعاقَب. زوال الإقترافات الجرمية هنا، مدخل لمواصلتها. كما لو أن الأسد قد قتل ضحايا الغوطتين ليزيل جرائمه في الماضي، وليستكملها في الحاضر.
تصير الجريمة الكيميائية "حيلة الملثّم" مع تحول "الضربة العسكرية" إلى إتفاق روسي- أميركي حول نزع سلاح محدد من يد القاتل، بدون أن يجري تأديبه ومعاقبته. تبدو مجزرة الغوطتين كأنها دافع إلى تغاضي الأنظمة الدولية عن المذبحة اليومية، التي بدأت في آذار 2011، وإلى التركيز على إبرام اتفاق متعلق بالسلاح، وليس بالمقتلة. تصير مجزرة السارين جزءاً بسيطاً من المشهد، الذي تخفيه حيلة جديدة من حيل الملثّم. إذ تركز بعض وسائل الإعلام العالمية سردها الإخباري على صور الذبح "القاعدي" لجنود النظام. بذلك، تشدّ العيون إلى صورة الجزّ كي تمحو ذاكرة المذبحة الدائمة، وتطرح سؤالاً عن مشروعية "التدخل الغربي" لمساعدة "الذابحين"، لا "المذبوحين". فارتكابات المتطرفين، المنتمين إلى "جبهة النصرة" أو "داعش"، لا تستر جرائم النظام فحسب، بل تخفي التغافل عنها أيضاً.
تصير بعض صور النحر سبباً للتغاضي عن "مجزرة المغدورين" في سوريا. هؤلاء الذين تظاهروا، فقُتلوا. تسلّحوا، فقُتلوا. طالبوا بالمساعدة، فقُتلوا. وعندما قرر البعض إعانتهم، سألهم أن يُقتَلوا أكثر. فثورتهم، "ثورة الأبرياء"، تحاصرها خدع التلثيم منذ يومها الأول، رغم العنف العاري الذي يمارسه النظام في حقها. ذاك، أن السوريين، ذات مجزرة، قد حفروا قبراً، طوله مئات الأمتار كي يدفنوا الضحايا. ومن ذلك الوقت، لا يتوقفون عن الدفن.
تصير لوحة بروغل الأكبر عبارة عن أرض محفورة، مليئة بالجثث، لا يقف عليها سوى ذلك القاتل الملثّم، الذي يوجه سكّينه إلى الرضيع ويطعن المدفونين تحت التراب وفوقه.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم