الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

ليلة دفن السينما في ليون على يد حفّار القبور نيكولاس فيندينغ رفن

المصدر: "النهار"
ليلة دفن السينما في ليون على يد حفّار القبور نيكولاس فيندينغ رفن
ليلة دفن السينما في ليون على يد حفّار القبور نيكولاس فيندينغ رفن
A+ A-

نيكولاس فيندينغ رفن ظلّ ينجز أفلاماً مذ كان في الخامسة والعشرين. لكن ولادته الحقيقية كانت مع "درايف" في كانّ العام ٢٠١١، حيث فاز بجائزة الاخراج. هذا الدانماركي المقيم في الولايات المتحدة له أنصاره الذين يدافعون عن خياراته الشكلية ومواضيعه الآسرة وانحيازه المتكرر للعنف، وهو معروف في الوسط السينمائي باعتباره أحد الطامحين إلى تأسيس ثقافة سينمائية مضادة، على غرار مواطنه لارس فون ترير قبل أكثر من عقدين يوم أطلق "دوغما ٩٥ “. ففيلمه "درايف" مثلاً تحية لسينما خودوروفسكي، لكن في الحين نفسه لا يخفي تأثره بـ"بوليت" لبيتر ياتس.  

مساء الاثنين الماضي، حضر رفن إلى ليون للمشاركة في مهرجان لوميير السينمائي (١٤ - ٢٢ الجاري). الهدف من الزيارة: اعلان بعض التفاصيل عن مشروعه الثوري الذي يقتصر على انشاء موقع الكتروني لعرض الأفلام المنسية المهمشة التي تستحق ان تُكتشف وتخرج من غبار المخازن الرطبة إلى الضوء. تييري فريمو مدير معهد لوميير، منظّم هذه التظاهرة المهداة إلى الأفلام الكلاسيكية والمرممة، قال عن مشروع رفن انه "سيحملنا إلى مستقبل معين من دون تجاهل الماضي العزيز على قلب رفن كثيراً”.

ما إن وصل رفن حتى صرّح بأسلوبه الاستعراضي الفخيم، وكله اعتزاز وفخر: "الاثنين ١٦ تشرين الأول ٢٠١٧ في الساعة الثامنة مساءً، أنا نيكولاس فيندينغ رفن أعلن موت السينما. أنا في القبر، وانتهى تاريخ الصلاحية". شغّل مخرج ثلاثية "بوشر"عدّاد الآيفون، وقال: "أريدكم ان تتذكّروا السينما كما كانت في الماضي. هل أنتم مستعدّون لذلك؟". فطلب من الحضور عشر ثوان صمتاً، الأمر الذي لبّاه الجميع. ساد في الصالة صمت القبور، القبور نفسها التي طمر فيها رفن نفسه.

بعدما دفن السينما في عشر ثوان، أعلن رفن ولادتها من جديد. وطلب إلى الجميع التصفيق. "كأخ ثالث للأخوين لوميير، أنا هنا لأشرح ما هو المستقبل. السينما اختراع جديد حدث للتوّ، فعلينا حضّ المراهقين على الابداع، وتوظيف اطلاعنا على ماضي السينما من أجل سينما المستقبل. يجب ان نفهم ان قواعد السينما القديمة، سواء الفنية أو الاقتصادية أو البنيوية منها، صارت توازي العهد القديم في تأثيرها. ومعهد لوميير هو الكاتدرائية. هنا يُمكن قراءة النصوص التأسيسية للسينما قبل الولادة الثانية. والولادة الثانية تتمثّل بموقع (*) سيُدشَّن في شباط من العام المقبل وسيكون بثلاث لغات، انكليزية وفرنسية وصينية. وأي مكان هو أفضل من هنا للاعلان عن هذا المشروع، أي المكان الذي وُلدت فيه السينما؟”.

روى رفن انه عندما ينظر إلى أولاده وكيف يستعملون الفيلم والتكنولوجيا، يجد ان فهمهم للسينما مختلف تماماً عن فهمه لها. "فكرة اننا أصبحنا جميعاً مبدعين ومصوّرين ومخرجين وموسيقيين، أحدثت ثورة في كيفية مقاربة سرد الحكاية. وبسبب ما يحصل الآن على مستوى الخدمات المتوافرة لمشاهدة الأفلام على النت، علينا النظر في الفرص المتاحة أمامنا. المستقبل باهر وهناك احتمالات كثيرة، أنا فقط حزين لأنني لن أعيش مئة سنة إضافية لأرى ماذا سيحدث. استخدام التكنولوجيا لسرد الحكايات، هكذا كانت الأمور تتطور دائماً. فنحن في النهاية لا نكفّ عن قول الأشياء نفسها. يعجبني ان أرى أولادي وهم يتعاملون مع أدوات حديثة ويتمردون على ذويهم. هذا يولّد عندي رغبة في المشاركة. ولكن كي أفعل ذلك، عليّ ان أقتل الماضي. أنا اليوم جئت من لوس أنجليس، بطائرة درجة رجال أعمال، كي أقول لكم انه يجب التخلّص من الماضي، مثلما بجب التخلّص من "الموجة الجديدة الفرنسية" في هذا البلد”.

“هل هذا يعني ان الدخول في مرحلة جديدة من تاريخ السينما سيحدث من دون الالتفات إلى الماضي؟”، سؤال توجه به فريمو إلى رفن الذي رد بأن الفنان لا يستطيع الابتكار من دون ان يعرف ماضيه ومن دون معرفة من أين يأتي. فهذا في رأيه شأن طبيعي. ولكن في المقابل، يجب القبول بالتطور.

المشروع خطر في بال رفن قبل سنتين، عندما وجد نفسه أمام كومة الأفلام القديمة التي كان جمعها في بيته، وهي أفلام وقعت في النسيان، ولم يكن يعرف ماذا يفعل بها. "كانت نيتي انقاذ شيء ما من ماضينا. تبلورت رغبتي في انقاذ هذه الأفلام بعدما تماهيتُ مع هؤلاء المخرجين المنسيين. كنت أصاب بالاحباط لمجرد التفكير انني قد أكون أحد هؤلاء. أصبح هاجسي لوقت طويل ان ابتاع كلّ شيء أعثر عليه. صار عندي نحو ٢٠٠ فيلم، ثم رحتُ أفكّر بما يمكنني ان أفعل بها. بدأتُ أخطط بطريقة أتشارك فيها مع الآخرين. فلجأتُ إلى أصدقاء وجهات أتعامل معهم، وعبّرتُ لهم عن فكرتي في طرح "أوتوستراد" ثقافي يُعنى بالفنّ، منصّة حيث يُعرض فيلم واحد كلّ شهر يكون مصدر إلهام لفنون أخرى لا علاقة لها بالفيلم. اذاً، أخذنا ماضينا إلى نقطة انطلاق للذهاب إلى الأمام. كلّ ثلاثة أشهر سيكون لنا رئيس تحرير ضيف، وستشمل وظيفته خلق محتوى فني حول الفيلم الذي نختاره للعرض. المطلوب هو خلق الإبهار وإثارة الفضول. المشاركون معي في المشروع وجدوا فيه احتمالات النجاح، لكني قلتُ لهم ان شيئا واحداً هو مهم جداً عندي: أريد الموقع مجّاناً. لا دعاية، لا إشتراك، لا شيء يفسد الشباب. أموّله من مالي الخاص ومن شغفي واقتناعي بضرورة خلق ما أراه يجسّد سينما المستقبل. فالسينما اليوم تتكون من الكثير من الأشياء. تجربة الأخوان لوميير في البداية كانت مجانية. علينا ان نتذكّر هذا، لأن الترفيه كله سيصبح في القريب مجاناً”.

ثم وزّع رفن بطاقات سوداء صغيرة كُتب عليها "كن جزءاً من الحركة"، طالباً من الناس ان يتناقلوها بينهم. شجّع فريمو ليلقي بالبطاقات في وجه الحضور. "هذه كنيسة، وأنت القسّ"، ثم صرخ: "الفنّ مشاركة”.

بعد التعريف عن المشروع، عُرض فيلمان أنقذهما رفن من الضياع. الأول هو "نايت تايد” (١٩٦١)، فيلم لكرتيس هارينغتون مع دنيس هوبر. يروي رفن: "اشتريتُ نيغاتيف الفيلم من جامع أفلام أميركي. هو متوافر على "دي في دي” ولكن ليس من مصدر النيغاتيف. فالنيغاتيف كان في حال يُرثى لها، حد انه كان يستحيل ترميمه. لم يبد أحدٌ استعداده للترميم. أدركتُ حالاً ان هذه وظيفة الفرنسيين. فذهبتُ إلى شركة "أفانتي". انقاذ هذا الفيلم وانتشاله من النسيان تطلبا سبعة أشهر عملاً. يمكنني ان أخبركم قصصاً طويلة كيف تم ترميم كلّ لقطة بلقطة، لكنها قصص طويلة جداً ستخلدون إلى النوم لو فعلت. و”كوداك" ساعدتنا وبفضلها سنسحب نيغاتيفاً جديداً. أما الفيلم الثاني، "عش طير الكوكو" (١٩٦٥) لبرت وليامز، فلم يشاهده أحد. فرقة كرامبس ألّفت أغنية تحمل اسم الفيلم الذي صار اسطورة مدينية، لأن حركات "بانك" كثيرة تكلّمت عنه انطلاقاً من بعض المشاهد المتوافرة على الانترنت. تم بيع البوستر الأصلي بثمانية آلاف دولار. قبل سنة ونصف السنة، تلقيتُ فجأة إتصالاً من جامعة هارفرد (قسم السينما) ليعلموني بأنهم وجدوا نسخة في قبو سينما قديمة. قلت لهم انني أريدها، فوافقوا. أخذتُ على عاتقي كلفة الترميم: ٣٠ ألف دولار. ثم شاهدتُ الفيلم وصرختُ: واو! لم أر أي شيء كهذا من قبل. المخرج برت وليامز لم ينجز سوى هذا الفيلم في حياته، لكن اسمه يتكرر على الجنريك أكثر من أي مخرج آخر. شعرتُ بالغيرة. وليامز كان فناناً بوهيمياً من فلوريدا، قرر وهو في الستينات ان ينجز فيلماً من وحي ما عاشه في الحرب العالمية الثانية. "عش طير الكوكو" سيكون الفيلم الأول على الموقع لسبب بسيط وهو ان لا أحد شاهده. اذاً أريد اختبار الجمهور اليوم. اكتشفت ان حياة وليامز مشوّقة، فبدأتُ أجمع كلّ شيء يتعلق به. نحن الآن في حوزتنا ٤٥ ألف كلمة عنه، بالاضافة إلى مئات الصور، وهذا كله سيكون جزءاً من أرشيف الموقع، لأن سينما المستقبل ترتكز على فهم سينما الماضي. وأجد ان أفضل طريقة لشرح هذا الفيلم هو القول: تخيلوا فيلماً لجون ووترز بلا جون ووترز”.


www.bynwr.com(*)




حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم