الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

زمن القلوب المتشظية على الجدران وعربات النقل

المصدر: "النهار"
طرابلس- رولا حميد
زمن القلوب المتشظية على الجدران وعربات النقل
زمن القلوب المتشظية على الجدران وعربات النقل
A+ A-

انطلاقا من المفهوم السائد: "شر البلية ما يضحك"، تطالع عابر الأسواق، والطرقات، والشوارع، عبارات السخرية والاستهزاء من السائد من ممارسات وقيم ومفاهيم. وإذا كان الأدباء والصحفيون يعبرون عن أنفسهم بكتابات مدبجة على الورق، والصفحات الإعلامية، فإن الأوساط الشعبية لها وسائطها الخاصة، جدران المدينة، أو خلفية وسائل النقل، وربما بقدر معين، وسائط التواصل الاجتماعي. 


ولا يستطيع المرء وهو يطالع ما يكتب إلا أن يضحك بملء فمه لعبارات تجمع السخرية المميزة، والنكتة الظريفة، يجرح صاحبها بها القيم الرائجة، ومنها ما يطاله شخصيا من ممارسة، يعبر بها عما في داخله، لكن بطريقته الخاصة.



على جدران أحد أحياء طرابلس، مثلا، كتب أحدهم "احببتك في زمن ليس فيه فرص عمل"، تذكر العبارة بأغنية دلال لزياد الرحباني: "ورح قلك لك دغري، أحوالي ما بتغري، ورثوني المكنسة، و طلعت زبال، و إذا بيني و بين المحامي، شغلة ما بدا سؤال".


 وعلى زجاج سيارة هزيء شاب من الاعتبارات التي تضع المصلحة الشخصية فوق كل اعتبار: "إذا مر الزمان ولم تروني، بيكون صار معي مصاري، وما بعرفكن ولا بتعرفوني". يذكر هذا السائق بأغنية من الزمن الجميل للفنانة الرقيقة هيام يونس: "يا ما أكتر حبايبي، لمن كرم دبس، يا ما قلو حبايبي، لمن كرمي يبس". ومن لا يعرف أن كثيرين يتصرفون على أساس: "بعد حماري ما يطلع حشيش".



تتفاقم مشاكل الانسانية، وتزداد صعوباتها، ومما يؤسف له أن يترافق كل ذلك مع تراجع الصداقات، والعلاقات الاجتماعية القائمة على الصدق، والإيثار، وعدم ارتباطها بالمصلحة المادية المباشرة. فمن العبارات التي تعبر عن التذمر وعدم الثقة بالآخرين :"اهل الوفا ماتوا"، او "تربيت على خوف من الله وليس خوف من البشر"، او"عتبان قلبي على البشر"، ولكن بأحرف لاتينية.


وليست المشكلة لبنانية محلية، بل هي عالمية، بدأت بتفكك العلاقات الاجتماعية العاطفية التقليدية تحت وطأة الحداثة، وتنامي الحس المديني العملاني، وتزايد شروط ومفاهيم سوق العمل، القائم أساسا على المصلحة الشخصية فوق أي اعتبار آخر. فيذهب الانسان إلى عمله من ساعات الفجر الأولى، ولا يعود إلى بيته إلا منهكا، بعد أن باع طاقته للسوق، وما إن يصل منزله، حتى يغفو لراحة يتطلبها عمل اليوم التالي. يتواصل العمل، وشروطه، دون توقف، وربما دون الحصول على مردود مادي يقيه متطلبات الحياة.



لا يستطيع تحقيق ذاته، ولا الوصول إلى رغباته، في زمن تراجع فيه العمل: بكل عفوية، وفطرية مبسطة، يفلسف أحدهم الحياة، ويربط العواطف في سوق العمل في القول"أحببتك في زمن لا يوجد فيه فرص عمل". ومن جهته، لم يجد سائق سيارة اجرة عمومية طريقة للتعبير عن سخطه من قلة الشغل ومن مزاحمة اصحاب السيارات الخصوصية سوى عبارة:"اعلان..السيارة والنمرة والسائق للبيع".


من أكثر الأمكنة المناسبة للتعبير هي جدران المدينة. يحمل أحدهم علبة البويا، وربما بما تبقى فيها من دهان في مركز عمله، أحب لكن الفتاة تفضل ثريا، فيكتب بفلسفة راقية وحس شعبي شفاف: "في بلادي الفقير لا يستطيع الحب، لأن الأغنياء اشتروا القلوب". يلخص هذا الانسان البسيط معاناته في هكذا تعبير، ويلخص أيضا مفاهيم العصر، فالقلوب- أي الحب- تأطر في استغلال السوق، وفي عملية البيع والشراء، والقلوب اشتراها الأغنياء، ولا تقبل الفتاة عريسا إذا لم يكن ثريا.


ونكاية بمدرسة قامت بدهن جدارها تجد من يكتب "مبروك الدهان"، او من يرد على عبارة "ممنوع لصق الاعلانات تحت طائلة المسؤولية"، يكتب احدهم عبارة:"مش فارقة معي... بلطوا البحر".


على مستوى آخر، سياسي الطابع، يكتب أحدهم: "أحبك كما تحب الدولة المطلوبين". يعبر عن شغفه بالطريقة التي تلاحق فيه السلطات المطلوبين، كقائل المثل: "يا قاتل يا مقتول"، وهو تعبير صادق عن شغف الحب، وقسوة تداعياته.



وتكثر على الجدران الأقوال الساخرة من الزمن الذي لا يمكن فيه التغيير: "الواسطة"، وقول: "احكي جالسا، واقعد أعوج"، لكنه بالانلكليزية: sit still and look pretty.


أبرز الأمكنة التي تجتاحها عبارات الحكمة، وخبرة الحياة خصوصا منها ما هو مندرج في سوق العمل، ما ترفعه الباصات، أو عربات النقل، أو خلفيات السيارات. أصحابها دعكتهم الحياة، وهم يعيشونها في الحياة العملانية لحظة بلحظة، فيكتبون ما لا يستطيعه أكبر الفلاسفة. مثلا، كتب أحدهم على ناقلته، التي حول خلفيتها لوحا دراسيا للحكم، والأمثال الشعبية:"يلي ما بيعمل للدهر حساب، بيكون أمير بيصير بواب"، وخلافا لمقولة "لا تسرع الموت اسرع"، وعبارة "لاتسرع يابابا نحن بانتظارك"، جاء الرد من احدهم "اسرع الموت حق".


وعلى زجاج باص، كتب السائق معبرا عن معاناته: "جوز بنتك لدكر بط، ولا تجوزا لشوفير خط"، وذلك نظرا لمعاناته طوال النهار يبحث عن لقمة العيش. و"جوز بنتك لمديون ولا تجوزا لشوفير كميون"، معاناة شبيهة بما سبقها، لكن شوفير الكميون عذاباته أكبر من سائق التاكسي.


ثم يأتي دور الخبرات الشبابية الرائجة في الشارع، بين العامة، وما يصطحبها من نكات، واستهزاء، يطغى عليه االابتذال، وغياب الثقافة الشبابية اللائقة، واحترام الآخر. يسرد أحد الشباب معاناته على ظهر سيارته، بما يشبه الرواية الرمزية عن فتاة صاحبته، ويبدو أنها لم تكن قدر امنيته:"بتشبه جنط السيارة.. ولما بتبعتلك صورتها.. بتقلك بليز ما تفرجيها لحدا.. ولك انتي بليز ما تقولي لحدا انك بتعرفيني"، وآخر كتب:"اجريها عوج وبدها بابوج"، و"امسح مكياج صحبتك بتلاقي عتريس ابن عمتك".


ومن الأقوال التي باتت شائعة في التعبير عن قساوة الحالة: "نعيش في زمن إذا قيل للحجر كن انسانا لقال: "عذرا فلست قاسيا بما يكفي".





حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم