الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

مهاجرون لبنانيون قابعون خلف الزمن: يصبّحون على الوطن من داخل صفحات الكتب البيضاء

المصدر: "النهار"
مجد بو مجاهد
مجد بو مجاهد
مهاجرون لبنانيون قابعون خلف الزمن: يصبّحون على الوطن من داخل صفحات الكتب البيضاء
مهاجرون لبنانيون قابعون خلف الزمن: يصبّحون على الوطن من داخل صفحات الكتب البيضاء
A+ A-

صورها حزينة، كانت مشتاقة إلى لبنان الذي عرفته في صباها، فتراه رحل معها يوم وطئت قدمها أرض أوستراليا؟ لم تهاجر لتبني القصور ولا لتكسب ثروة، بل لأنها كانت تبحث عن الأمان، بعدما عاصرت الحرب وعاشت في الملاجئ إلى جانب قوارير الغاز في عين الرمانة. وهي تجول في مبنى "النهار" في وسط بيروت، تأخذ نفساً عميقاً، كأنها تريد أن تغادر المكان في أسرع وقت، رغم أنها قصدت زيارته. تكثر الإشارات بيديها وهي تتكلّم، وعندما يزداد حديثها صخباً تلتجئ إلى جملة شعرية على طريقة الأدب العربي، لأنها آتية من عالم الكتابة. ليست بعابرة طريق، بل هي متأمّلة في طريق؛ شاديا الحاج الحجار، كانت ذاهبة لتختار لوحة فنّية تشتريها "من عند لور غريب اللي ما بتعرف قدي بحبا"، وتزين بها غلاف كتابها الذي عاد ليورطها في ماضيها بعد عقودٍ من الهجرة. إنها مصرّة على أن تقبع في الماضي، في ملجأ عين الرمانة، رغم أنّ الزمن تغيّر وشاديا اليوم تغيّرت. السعال المتقطّع يقلق صديقها إيلي خديجة الذي تعرّفت إليه عبر "فايسبوك" واصطحبته إلى وسط المدينة ليحكي ما يختلجه هو الآخر. يقول لها: "يا شاديا سعلتك مش مطمنتني". وهي كانت تدرك أنّ عليها أن تستهل الكلام قبل "شلّتها". تقول إنها تسابق السعال وتريد أن تحكي قبل أن تغلبها فوضى حنجرتها، كأنها تكتب وصيّتها.

سافرت إلى أوستراليا لتبدّل جلد ذكرياتها. "كي تبني ذكريات جديدة عليك أن تقتلع ذكرياتك القديمة من جذورها"، لكن "الجذور" ظلّت على قيد الحياة. في الغربة زرعت شاديا نفسها في حديقةٍ أزهارها غريبة. الجذور لم تتمتع بالقسوة، بل بنت خطّ "ترانزيت" بين سيدني وبيروت؛ إنه لأمرٌ سهل. علّمت آسيويين وأفارقة وأجيالاً لبنانية صاعدة في سماء الغربة اللغة العربية. صدى أوستراليا جعلها تكتشف معاني ما تتفوه به. أهلاً وسهلاً لا تشبه welcome. "حللتم علينا أهلاً ووطئتم سهلاً"، إنها أطروحة مختلفة عن ثقافة الترحيب. "الأهم هو عامل الإخلاص والمحافظة على اتقاد الشغف. الأولاد أنقياء النفوس وغبار الحياة لم يدخل قلوبهم. تجذبهم اللغة، شعاري. إذا أحببت أمك أحببت لغتك. أكثرية طلابي من خلفيات آسيوية، يهاجرون ليكسبوا المال، أما أنا فلا أجد مكاناً لي تحت الشمس. الغربة طوّرتني وعلّمتني أن أحب لبنان أكثر"، تقول شاديا وهي تتأمل في الصور المحيطة بالغرفة، لتعود وتضيع في الماضي وتعقّب: "جبران تويني وغسان تويني وأنسي الحاج وريمون جبارة تاريخ كبير رحل. إنهم يعنون لي كثيراً. كنا شباباً تربينا مع هذا الجيل. وعقل العويط كمان. الحمدالله بعدو طيّب". "كان يقول لي الأستاذ أنسي إنّ الكتابة رفيقتك إلى الحياة، ولا رفيق أصدق من الكتابة. من هنا أحببت أن أجمع في الكتاب أناساً عرفتهم، منهم صاروا أمواتاً ومنهم أحياء".

تكلّمت شاديا كثيراً ولم ينافسها في الصخب الانفعالي سوى وتيرة السعال المرتفعة. وكانت "المجموعة" التي اصطحبتها معها تصغي إليها وتشرد طرباً لما تقوله رفيقة الدرب، التي بنت حاضرها على أنقاض ماضيها مع أناسٍ ينتمون إليها في التجربة؛ كمن يؤمن بمقولة "يا متلنا تعا لَ عِنا". وكان اللافت من بين الرفاق الأربعة، إيلي خديجة الذي كان يصرّ على اصطحاب شاديا وإياه في سهرة أقامها أصدقاء مغتربون بعدما جمّعوا أنفسهم عبر مواقع التواصل وقرّروا أن يتبادلوا أنخاب لمّ شملهم مجدداً بعد غربتهم. لكنها تأبى أن تشارك، يشاكسها ويمازحها ويخاف عليها من "السعلة". هو الذي كان شغوفاً بعالم السينما، كان يتكبّد عناء السفر سنوياً إلى فرنسا ليشاهد الأفلام في شبابه، إلى أن تذبذبت توقّعات تشي بتجدد الحرب في لبنان سنة 1983. كان يقطع تذكرة الذهاب في شباط ليشاهد الأفلام قبل أن يسبقه صدى المدافع. يروي خديجة كيف ذهب تحت القصف إلى جونيه ومنها إلى قبرص، قبل أن يصل إلى فرنسا: "لم أعرف كيف كنت سأستمر. جدّدت دراساتي رغم أنني كنت قد اكتسبت شهادة، ثم بدأت أعمل في القنوات الإذاعية. حصلت على الجنسية الفرنسية، وكان هدفي الحصول على وظيفة دولة. نجحت في الامتحان الخطّي ثم الشفهي بعدما حدثتهم عن الفنان جان جاك غولماند، بدلاً من التكلم عن خبراتي؛ نتج ذلك من ولعي بالموسيقى. عملت في ANPE عشرين عاماً. كان ذلك كافياً لأتقاعد، بعد 42 سنة عملاً بدأت في لبنان في جريدة "لوريان لو جور" وانتهت في باريس. نلت 1000 أورو كتعويض ونويت المغادرة إلى لبنان في غضون 6 أو 7 أشهر بعدما قلت لعائلتي إنّ "وجودي متل قلتي". أجلس في المنزل وأتأمل المطر والضباب؛ زوجتي تعمل من الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساءً، وابني "فلتة متلي، دخل كلية العلوم السياسية وبرع".


أما العنصر الثالث في الشلة، "صاحب مطعم البيتزا في أوستراليا" كما تصفه شاديا مازحةً، هو جورج مخول الذي درس التمثيل والإخراج في جامعة الروح القدس الكسليك قبل أن تغيّر الأحداث طريق مستقبله. يعرّف نفسه بـ "المواطن صاحب الحلم الكبير، لأني كنت مقرّباً من قائد قويّ في البلد قبل استشهاده. كنت مسؤولاً عن مصلحة الطلاب في بكفيا، وأتحضّر لأبُعث ستة أشهر إلى الأردن لأكون ضمن كادر أمن خاصّ له في القصر الجمهوري في بكفيا. عندها قررت الرحيل مهاجراً إلى أوستراليا ولكن الحلم بقي في لبنان. كنت مسؤولاً عن العائلة وانخرطت في معترك مختلف عن هدفي. لكني لم أتنازل عن شغفي في عالم الإعلام. كتبت التحليل السياسي والاجتماعيات في أكثر من جريدة، وعدت وانخرطت في نادي شباب لبنان الأوسترالي، وفعّلت مهرجانات في مناسبة عيدي الجيش والاستقلال موحّداً اللبنانيين رغم خلافاتهم". يصف مخّول لبنان بأنه "مصدر للذهب الذي تتسرّب منه الثروة دون حلولٍ جوهرية لوقف النزف. في أوستراليا يبلغ سعر ليترٍ من الماء 3 دولارات، فيما سعر ليتر البنزين لا يتجاوز الدولار والخمسة سنتات. مياهنا ترمى في البحر رغم أنها بترولنا الغنيّ". وينهي مداخلته باستنتاجٍ مفاده أن "لا نفع للإنسان إذا ربح العالم وبنى الأمجاد في الغربة، لكنه خسر نفسه. العودة لا بد أن تتحقق ولكن أبسط حقوق الإنسان غير موجودة".

كأنهم كانوا ينتظرون أن تدوّن الكلمات سيرتهم الذاتية في الغربة، إلى حيث ذهبوا مذ سلختهم الحرب عن بلدهم الأم. كانت أيّامهم مقدّرة لهم. كما كلّ إنسان، ساروا مع التيّار الجارف، لكنهم لم يغرقوا في الحضيض. تمسّكوا بخشبة خلاص قادتهم إلى برّ الأمان. ليست كنظرة المواطن القاطن في بلده، نظرتهم. إنهم يصبّحون على لبنان من بعيد، من خلف البحر، من خلف زجاج مطعم البيتزا، من داخل صفحات الكتب البيضاء التي تخلّد أيامهم المتبخّرة في حبر أقلامهم، ومن رجفة السعال التي تشي بأنّ على العودة أن تكون قريبة.


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم