الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

قلحات: من الفرعوني إلى الغساني... وتل البلمند الشهير

المصدر: "النهار"
طرابلس- رولا حميد
قلحات: من الفرعوني إلى الغساني... وتل البلمند الشهير
قلحات: من الفرعوني إلى الغساني... وتل البلمند الشهير
A+ A-

مميزات عديدة تنعم بها بلدة قلحات الكورانية، لكن أبرزها ثلاث: تاريخ متصل بالمرحلة الفرعونية، وآخر غساني، وموقع خاص تعلوه قبة الجرس الوحيد من نوعه في دير سيدة البلمند القائم على تل يظل منحدرا دون توقف حتى يلامس البحر. 

فقلحات تقع على رأس تل مشرف على البحر لمسافة قصيرة، مما يضفي عليها طابعا جميلا، وأطلق الأجانب الذين وفدوا إلى المنطقة على التل صفة "الجبل الجميل" أي ال “Belle Mont”، وفي الاستخدام العام، تحولت العبارة إلى "البلمند" الدير التاريخي والجامعة الشهيرة.

انحدار التل حتى اتصاله بالبحر، ظاهرة نادرة، لكنها متكررة في لبنان في جبل رأس الشقعة الذي يعلو البحر بانحدار يفوق الخمسة والثمانين درجة، اي يكاد يكون مستقيما فوق مياه الأمواج، وأيضا في جبل حريصا المطل على مدينة جونية الساحلية، حيث لا يستقر انحدار الجبل إلا عند تماسه بالبحر.

وقلحات في التاريخ اسم طاعن في القدم، يرد ذكره في كتابات أحد الملوك الفراعنة، وهو رعمسيس الثاني، عند قدومه إلى الشرق من مصر. فأي بعدٍ تاريخي للكلمة لكي يتوارد ذكرها منذ ذلك التاريخ؟

يعالج التسمية الكاتب تامر نصر في كتابه "قلحات قديما وحديثا"، ويستند به إلى مرجع عالمي هو وليم أ. وورد، استاذ تاريخ أميركي في الجامعة الأميركية في بيروت، في كتاب له عنوانه "بيروت ملتقى الحضارات" (١٩٧٠)، وينقل عنه قوله: "في سجلات مهمة عن حملاته (رعمسيس الثاني) على لبنان، نستطيع أن نتحقق من هوية العديد من بلدات لبنان الشمالي والبقاع، التي كانت معروفة آنذاك: أرده، قلحات، القلمون، البترون، فهذه البلدات، وكثير غيرها، كانت لها ذات الأسماء لأكثر من ثلاثة آلاف سنة خلت".

بالنسبة لمعنى الكلمة، لا بد من العودة إلى أنيس فريحة الذي يفسرها في معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية أن معناها "هجمات وثورات"، ومصدر التسمية آرامي.

دير سيدة البلمند

يلتصق تاريخ "قلحات" بدير سيدة البلمند القائم في خراجها، وعند طرفها الشمالي. ولا بد أن يكون رهبان الدير الأكثر تعلما، قد ساعدوا في الحركة العلمية التي نمت البلدة على أكتافها. وهو دير أثري قديم تأسس بين

القرنين الثاني عشر والثالث عشر، بحسب المراجع التاريخية العديدة المتوافرة فيه، وفي مكتبة الجامعة التي نشأت قربه منذ أوائل تسعينات القرن الماضي.

وتفيد المراجع التاريخية أن الدير تأسس خلال الحملة الافرنجية الثانية على يد جماعة من الرهبان يعرفون بالأخوة "السيستريين" التي أسسها برناردوس الكليرفودي الداعي الرئيسي الى تجنيد تلك الحملة. وعلى عكس التقاليد السيستيرية التي كانت تقيم أديارها في الوديان، فقد أقيم دير البلمند على مرتفع لأسباب دفاعية واضحة، وإستمر العمل فيه ما يزيد على مئة عام بين سنتي ١١٥٧ و ١٢٨٩ ميلادي تاريخ سقوط كونتية طرابلس الصليبية بأيدي المماليك.

هجر الدير حتى بداية القرن السابع عشر، ثم لجأ إليه عدد من الرهبان الأرثوذكس، فقاموا بترميم أبنيته المتداعية، وأصبح مؤخرا جزءا من مجمع ديني وجامعي شهير، وتعتبر قبة جرس الكنيسة الحجرية المثال الوحيد المتبقي من فترة الصليبين للآباء السيستريين في الشرق.

التأسيس الحديث 

الحديث عن قلحات اليوم يعني تاريخها الذي بدأ أوائل القرن الثامن عشر عندما وفدت إليها عائلات من الغساسنة المسيحيين، والتاريخ الذي سبق تلك المرحلة يذكر في المراجع التاريخية بطرق مختلفة غير مركزة على البلدة. والظاهر أن المنطقة المعروفة ب"قلحات" مرت عليها العديد من الشعوب، وتعرضت للكثير من التقلبات والمتغيرات، ومما يتذكره الأهالي "العثور على مقابر يهودية فيها".

غالبية مرجعيات البلدة ممن يلم بتاريخها، يجمع على أنها تأسست على يد عائلة غسانية وفدت من حوران، بقيادة نصر- جد عائلة نصر الحالية، وأكبر عائلاتها، والتي اختارت لدى وفودها نقطة تمركز حول نبعين من الماء، لا يزالان قائمين فيها.

تفيد ذاكرة قدامى أبناء البلدة أن الجد نصر كان قبضايا، تؤشر لذلك قدرته على السيطرة على منطقة واسعة تبدأ بتل قلحات وتتصل بالبحر، وتعتبر مساحة مترامية، يشير ضبطها، والسيطرة عليها إلى قوة لدى من يحكمها. ومن هنا، يقول أبناء "قلحات" أن جدهم نصر أثبت وجوده بقوة لدى السلاطنة العثمانيين، ومما وهبوه إياه، إعفاء بلدته وجوارها من الاتاوات المفروضة عليهم للسلطنة.

تتركز البلدة الحالية في الحي القديم حيث الممرات الضيقة، وبقايا العمارة القديمة، ومثل بقية البلدات المشابهة، انتشرت البلدة، وتباعدت حاراتها، وتكونت فيها بيوت حديثة ومتطورة.

بداية التطورات تجلت في حي يعرف بحي مار سركيس حيث يقوم دير تاريخي، ومن هناك بدأت المنازل بالتمدد إلى خارج الحي مع تطورات عمرانية فيها تتضح في منزل من قرميد من طبقتين على زاوية الشارع العام.

وبعد حي مار سركيس، امتد البناء إلى حي شرقي، أسمي بسبب ارتفاعه بحي "الضهر"، وبدت فيه حداثة متوسطة العمر بدأت أواسط القرن الماضي، مع بيوت تقليدية، واخرى تنشأ حاليا بطابع حداثي.

قبالة حي الضهر، يقع الحي الغربي، وهو الأحدث، ويتكون من فيلات وبيوت كبيرة وواسعة تظهر مدى تنامي القدرات الاقتصادية للسكان، والتي يجمع عليها عارفو تاريخ قلحات بأن سببها حركة العلم، وحركة الهجرة الواسعتين.

نشوء البلدة يحدد تاريخه مبنى لجأ إليه الجد نصر، وهو مبنى واسع من عقود كثيرة، أشبه بمنزول، وكان موجودا قبل وفود آل نصر. هذا المنزل، ودير مار سركيس القريب منه يشكلان انطلاق البلدة الحديثة. فحول

المبنيين، بدأت قلحات تتشكل وتتسع، تدل على ذلك البيوت العتيقة التقليدية الطابع، والأدراج الحجر، والتشكيلات العمرانية المنتمية إلى اواسط القرن التاسع عشر وامتدادا حتى أواسط القرن العشرين.

ورغم أن سجلات نفوس البلدة تشير إلى عدة آلاف شخص، إلا أنه يسكنها ما لا يزيد عن الألف نسمة، هم المتبقون في لبنان، في البلدة أم خارجها، والباقون منتشرون في أصقاع العالم، خصوصا في أميركا الجنوبية.

تتصف البلدة بحركة علمية مبكرة، حيث كانت الدروس تعطى للتلاميذ منذ القرن التاسع عشر، في فسحة طبيعية تقع على طرف البلدة القديمة، لجهة الشمال الغربي، وهي اليوم جزء من الحي القديم الذي تقوم فيه كنيسة مار جرجس الأجدد بناء من مار سركيس، وشيدت سنة ١٨٨٩، بحسب لوحة تعلو المدخل.

ويفيد فوزي نعمة، المفتش المتقاعد في التفتيش المركزي في لبنان، أن "الجامعات والمعاهد الهامة في لبنان لا يخلو واحد من اساتذتها من استاذ طليعي من "قلحات"، وفيها حركة أدب وشعر وعلوم، وكنموذج عن تطور العلم فيها، هناك أربعون طبيبا منها من مختلف الاختصاصات حاليا"، لاحظا أن"الحركة العلمية المبكرة أتاحت لأجيال البلدة إمكانية العمل الأفضل، والتوظيف".

وتنضم صناعة استخراج الملح التي اعتمد السكان عليها منذ أوائل القرن العشرين إلى مصادر دخل السكان، عندما تأسست بعض مصانع تكرير الملح، وتوضيبه في المنطقة، وبسبب تراجع صناعة الملح، توقف أبناء قلحات عن الاعتماد عليه.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم