الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

عذراء الشهداء

المصدر: "النهار"
محمد أبي سمرا
عذراء الشهداء
عذراء الشهداء
A+ A-

قبلتْ أختي بأن يختلي بها الشاب المسيحي في غرفة من المنزل. فعلتْ ذلك للمرة الأولى في حياتها. لكنها رفضت أن تنزع عنها أي قطعة من ثيابها. نحن الأختان سمّانا والدنا الحُرْمتين المقطوعتين. أنتِ يا ماريان لا تفهمين معنى هذه التسمية التي التصقتْ بنا منذ بلوغنا، وبها كان أبي وأمي يتحسران على عدم انجابهما، قبلنا وبعدنا، محْرَماً ذكراً يصون حريميّتنا المحتقرة، فشاعت تسميتنا تلك - الحرمتين - بين أهلنا وأقاربنا في ضيعتنا الجنوبية وفي حي النبعة بضاحية بيروت الشرقية، حيث كان منزلنا الذي انتحر فيه والدي قبل أن تهجِّرنا منه الحرب مع سائر سكان تلك الضاحية المسلمين. والدي قبل انتحاره لم يوفر مناسبة إلا حدّثنا فيها عن احتقاره المسلمين ونفوره منهم، قائلاً: تطلعوا يا حريْمات كيف بيعيش جيرانّا المسيحيين والأرمن الفقرا متلنا. بدّي ياكن يا حريمات تكونوا متلن، مرتّبين وحلوين ونضاف. شوفو ولادن الطفالا كيف ما بيمشو حفايا، حتى بغرف النوم ما بيشلحوا المشايات من جرين، إلا بس ينامو. فجأة قاطعت ُعذراء الشهداء بقهقهتي وقلتُ لها: لا، لا بل بيحضنو مشاياتن وبيبوسوها وبينيموها معن بالتخت كمان. لكنها على غير ما تعودتْ أن تفعل في مثل هذه الحالات، لم تكترث بما قلته، كأنها لم تسمعني. كانت تقود بنا سيارتها، بعدما غادرنا المقهى الذي انتظرنا فيه شقيقتها الصغرى أكثر من ساعة، من دون أن تأتي إلى موعدها معها، فسألتها: شو عملتْ إخلاص بعدين؟ شلَحِتْ تيابها؟ بلى، بلى شلحتهن - قالت - بعدما وعدها أنو يعمل مسلم. وشو صار بعدين؟ - سألتها أيضا - فبدّلتْ لغتها ولهجتها قائلةً إن إخلاص، بعدما خلعتْ عنها ثيابها، اشترطت على الشاب، لتستلقي إلى جانبه على السرير، أن يجامِعها خارجياً فقط. 

فيما هي تروي لي بتوتر شديد ما حدث، لم أسألها إن كانت تتمنى أن تكون هي إلى جانب ذلك الشاب في السرير. باقتضاب شديد لم تكتم اشمئزازاً أشدّ منه أفصحت عنه ضحكاتها شبه الهستيرية، وباستعارات وتوريات مصدرها ما يحدث بين الحيوانات في الحقول والحظائر، تحدثتْ عما فعلتْهُ أختُها وفعله الشاب في السرير. كنت متعوّدة على طريقتها هذه في الكلام، كلما وصفتْ اللقاءات الحميمة والفعل الجنسي بين البشر. وفي هذه الحالات غالباً ما كانت تلفظ كلماتها بلهجة أمها وصوتها. وهي لهجة أهالي الجنوب الذين كنتُ قد رافقتها إلى اثنتين أو ثلاث من قراهم لحضور جنازات لشهداء الحزب فيها. من استعاراتها وتورياتها بتلك اللهجة، كان عليّ أن أتخيل وأترجم إلى لغةٍ أخرى مشهدية ما حدث في تلك الليلة لشقيقتها مع الشاب في غرفة المنزل الجبلي بعد سهرتهم في صالونه: تمدّدتْ إخلاص على السرير عارية إلى جانب الشاب. ما إن مدَّ يده ولامس ثديها تحت الغطاء، حتى أخذت ترتجف رجفات متسارعة لم تقوَ على كبحها، بل اشتدتْ وتضاعفت وتيرتُها وقوتها إذ وضع الشاب يده على بطنها، فتحولت رجفاتها انتفاضاً عنيفاً لجسمها، كأنما نوابض تنتفض في داخله، وجعلت السرير يهتزّ وينبعث منه أزيز متصلٌ حمل الشاب على الابتعاد منها إلى حافته، فازدادت قوة انتفاضها مندفعةً من سرتها إلى نواحي جسمها وأطرافها، فيما هي تعضُّ أصابع كفّها بأسنانها، تلك التي كثيراً ما لفتني بياضها الناصع وتناسقها كلما أبصرتُها تضحك ضحكتها الفجّة الجامحة، كأنها صدى لبياض أسنانها الثلجي في ضوء شمسي باهر. عندما أخرجتْ أصابعها من فمها، أطلقتْ صرخات قوية معولةً، بينما عبثاً حاول الشاب المفتول العضلات المكسو جسمه بشعر أسود كثيف، كتْم صرخاتها بإطباقه كفّيه على فمها، لكنه كتم هو صرخته متألماً من غرسها أسنانِها عنيفاً في إحدى أصابعه، فنفر منها دمُه بعدما انتزعها بقوة من بين أسنانها مجردةً من قطعة جلد صغيرة بصقتها من فمها، فالتصقت بجبهته. وإذ اشتد عويلها، انهال على وجهها يصفعه ويلكمه، حتى أغمي عليها وتلاشت تماماً، فما كان منه إلا أن أدخل أصابعه فيها، فانتفض جذعها منتصباً ثم هوى إلى السرير. مجدداً وبقوة مضاعفة كرّر إدخال أصابعه مرات في الموضع نفسه، وراح يحركها ويحركها عميقاً، راغباً في اختلاط دمه النازف من أصبعه بدم بكارتها.



صباحاً - على ما روت لي عذراء الشهداء - صحتْ إخلاص على صداع عنيف في رأسها، ووجدت أنها وحدها على السرير في الغرفة، فيما يصدح عالياً في أرجاء المنزل نشيد: طلْ سلاحي من جراحي يا ثورتنا، طلْ سلاحي/ ولا يمكن قوة في الدنيا تنزع من إيدي سلاحي. وبعدما توقفَ صداح النشيد، وساد صمت، خفّتْ قوة الصداع في رأسها، فتخيلتُها أنا تنزل بطيئاً عن السرير، وتقترب متثاقلة من مقعد في الغرفة تتكوم عليه ثيابها. أخذت بصعوبة ترتديها في مساحةٍ ينيرها ضوء شمسي يخترق قماش ستائر النافذة. لم تكترث ببقعتي دم رأتهما متخثرتين على أعلى فخذيها، ولا بأخرى لمحتها تلطّخ الشرشف على السرير. وحين فرغتْ من ارتداء ثيابها كلها، وحملت محفظة يدها، انتبهتْ إلى أن الصداع في رأسها قد زال تقريباً، فتلفتت بهدوء في جهات الغرفة، ثم اقتربت من بابها شبه مخدرة. لكن استرسالي في تخيل مشاهد لما فعلتْه إخلاص بعد خروجها من الغرفة، قطعته ضحكة أختها التي كنت جالسةً إلى جانبها وتقود بنا سيارتها، فالتفتُّ إليها إذ فاجأتني بإطلاقها صوتها تغنّي باكية: رميتِ الورد، طفيتِ الشمع، يا حبيبي/ والكلمة الحلوة ملاها الدم، يا حبيبي. ثم توقفتْ عن الغناء وواصلت البكاء قبل أن تقول لي إن هذه الأغنية قد تكون خطرتْ في بال شقيقتها، وربما همستْ بها لنفسها قائلة أيضاً: شوف بقينا فين يا قلبي، شوف بقينا فين؛ فيما هي تخرج من الغرفة إلى صالون ذلك البيت الذي أوصلتُها أنا إليه في البلدة الجبلية المسيحية المحررة، فاغتصب أختي شاب مسيحي تربّينا نحن الحرمتين على التوله بأمثاله استجابةً منا لرغبة أبي ووصيته. 

عندما توقفتْ عن الكلام وساد في السيارة صمتٌ مفاجئ، وتوقفتُ بدوري عن تخيّل مشاهد لما روته عما حدث لشقيقتها في ذلك المنزل في البلدة الجبلية، انتبهتُ إلى أنها، منذ انطلقت بسيارتها بعدما غادرنا المقهى في شارع الحمراء، كانت تقودها بلا هدفٍ سوى السير الذي فكرتُ أنها استمدت منه وتيرة كلامها المتقطع، إيقاعه وتداعياته. أنا بدوري كنتُ ساهيةً تماماً عن انقضاء الوقت وعن المشاهد التي عبرت في مجال بصري الشارد والزائغ عليها، كأنني لم أرها. لكن في ذلك الصمت في السيارة، تراءى لي أن المشاهد التي تخيلتُها لإخلاص، كانت تستمد إيقاعها البصري من المشاهد التي سهوتُ عنها شاردةً زائغة البصر في الشوارع التي عبرناها خاويةً ذلك الخواء الاسمنتي الكالح الذي كان يبعث في جسمي وحواسي استرخاءً لقَلَقِه الأليف والبليد طعم الرماد في نهارات الأحد البيروتية الكئيبة في هدوئها بعد جولات الحرب المتقطعة.


أمام البناية الكالحة التي في طبقتها الأرضية كان مرسم الحزب للأفيشات والبوسترات وللمتدربين على الرسم، أوقفتْ عذراء الشهداء سيارتها نهار الأحد ذاك، وسألتني إن كان مفتاحه معي، وقالت إنها لا تطيق الذهاب إلى بيتها، لأن أمها منذ كان بيتهم في النبعة، تعوّدت على ألا تتوقف عن الشطف والغسيل والتنظيف والطبخ في نهارات الأحد، مالئةً البيت صراخاً وشتائم بصوتها الناعب أثناء تنقلها بين غرفتيه وصالونه ومطبخه وشرفته، مطلقةً العنان لنقمتها الدفينة الدائمة على نفسها وعلى الدنيا، وعليهما، هما الأختين، ابنتيها، من دون أن توفِّر والدهما، زوجها المنتحر، من شتائمها المقذعة.

مبادرة عذراء الشهداء الصريحة إلى كلام حاسم بصوت واثق النبرة عن رغبتها في عدم الذهاب إلى بيتها، أثارت فضولي، إذ طلبتْ مني أن نتابع الحديث ونشرب القهوة في المرسم، بعدما قلتُ لها إن مفتاحه معي.

قاعة المرسم الواسعة مهجورة خاوية. في إحدى زواياها، المقعدان المهملان التالفان. دخلنا إلى المطبخ الجانبي، وفي صمت شرعنا في تحضير القهوة في ركوة على نار جهاز غاز صدئ على مجلى رخامي مغبّر وقفنا أمامه مستغرقتين في صمتنا الكئيب، تلفحني رائحة القهوة محدقة في غليانها الخافت البطيء في الركوة، فيزوغ بصري، يغشاه غبش يريني أننا في مشهد بعيد، رمادي داكنٍ، ونتعانق عناقاً أخوياً صامتاً. في مشهد آخر نخرج من المطبخ إلى القاعة، من تحملُ الركوة وفنجانين فارغين، تضعهما بين المقعدين على منضدة تهرَّأ خشبُها وتقشّر طلاؤها من جانبها. تصبُّ القهوة في الفنجانين. بعد جلوسنا متقابلين جانبياً على المقعدين تقول في صوت غير صوتها: لا تسأليني عما أوصانا به والدي، أنا وأختي إخلاص. صوتُها بعيد وغريب ويبديها شخصاً آخر مختلفاً عما كانته قبل دخولنا إلى المرسم. على غير عادتها في الكلام، تتابع كلامها في صوت واضح واثق: كلما فكرتُ بعلاقتي بكِ، بصداقتنا، بمسارها منذ التقينا للمرة الأولى وتعارفنا في مكاتب جريدة الحزب - للمرة الأولى لا تقول حزبنا - يتهيأ لي مشهدُ انتحار والدي، وأحدسُ أنه هو من أوحى لي بالتقرّب منكِ، وكان سرَّ اندفاعي إليكِ، وتعلقي بكِ صديقةً تتجاوز صداقتنا عالم الحزب وعلاقاته، ليس لأنك مسيحية وأرمنية فقط، بل لأنك ممن يُقال في الحزب إنهن بورجوازيات خنَّ أهلهن وطبقتهن. أعلم أنك مفتونة بالخيانة وتعتبرينها فجر البراءة والنقاء في حياتك، وترين في عذريتي النقيّة مصدر العفن في جلدي وروحي. لذا سمّيتِني عذراء الشهداء. لكنني أريدك أن تعلمي يقيناً أن جمال الخيانة وسحرها في شخصيتك هما ما جذباني إليكِ، وإلى سخريتكِ المتهكمة التي علّمتني ودربتني على ألّا أصدق تلك الكذبة الرخيصة التافهة، تلك التي أشاعها الحزب عن خيانة البورجوازيات والبورجوازيين أهلهم وطبقتهم، فور انتسابهم إليه وانضوائهم في دوائره التنظيمية. هل تعلمين أنني أحببتُ تسميتك إياي عذراء الشهداء، لأنها حلّت محل تسمية الحريْمات التي أطلقها علينا، نحن الأختين، والدنا وأهلنا، ولأن تسميتك مزجت بين رغبة والدي المنتحر وبين أن أكون صديقتكِ وقرينتكِ في الحزب، وكذلك بين توقي إلى الارتقاء في مراتبه التنظيمية. السخرية المتهكمة التي أتوقعها منكِ الآن لن تمنعني من القول إن ما أعبده، بل أشتهيه فيكِ شهوة أليمة، هو ذلك النور الطيفيّ الذي يشعشع من أصداء اسمك – ماريان - كأنه ينبعث من شجرة عيد الميلاد الصغيرة التي أحضرها والدي مرة في طفولتي إلى بيتنا في النبعة. كانت أمي قد ذهبت صباحاً لإحضار ما تبقى من المؤونة الصيفية في بيتنا الآخر في ضيعتنا الجنوبية، فاستغل والدي غيابها وغياب نقمتها، وجلب الشجرة الصغيرة ظهراً، ووضعها في زاوية صالون البيت، ليهنأ معنا نهاراً في حياتنا البيتية. ساعدَنا، أختي وأنا، في تزيين الشجرة، وعلى بساط فرشه على الأرض أمامها جلسنا في ذلك المساء، فأضاء مصابيحها الصغيرة الملونة، وأخذ بصوته الشجي الحنون الباكي بلا دموع يغني: ليلة عيد، الليلة ليلة عيد. زينة وناس، صوت جراس عم ترن بعيد. كان موقناً أن أمي لن تعود إلا ظهيرة الغد، لكنني عندما فُتح فجأة باب البيت في ذلك المساء، التفتُّ من مكاني أمام الشجرة، فإذا بأمي تضع على المدخل صندوقة خشبية وتدفعها بقدمها، ثم تغلق الباب خلفها بقوة وتقف جامدة في مكانها. استمر والدي يغنّي: تلج، تلج، عم بتشتّي الدنيي تلج. والنجمات حيرانين وزهور الطرقات دبلانين. فجأة قطعتْ محدّثتي أغنيتها هذه، ووقفت عن المقعد في زاوية قاعة المرسم، وصرخت في صوت أمها ولهجتها: شو عم تعملوووو... يا شحاراااي، من وين بدّي شحر منديلااااي؟! عم تعبدوا الصجرا يا كلاييييب يا خنزاااايييير؟! لكنها بصوتها هي، لا بصوت أمها، أطلقت موجة من الضحك المقهقه الذي لم أرها تطلقه قط من قبل، ثم تابعت روايتها عما فعلتْهُ أمها: تشبثتْ بشعري وشعر أختي، وراحت تجرّنا على أرض الصالون وترفسنا بقدميها، قبل أن تلتفت إلى والدي وتتابع صراخها: وأنتااااي يا منتن يا معفن، يا حريْمي، يا بو نص لسيييين، عم تغنّي بغيبتااااي للحرمييييت عن هذاكي الحرْمي المسوح متليييك، واللي مش معروف قرعة بيووو من وين؟! وفي هذه اللحظة امتزجت قهقهتي أنا بقهقهة مؤدية المشهد التي تابعتْ أداءه بصوتها: تركتْ أمي شعرنا، وهجمت كثور هائج على الشجرة الصغيرة في زاوية الصالون، فركلتها عنيفاً بقدمها، فانبعثت منها إشعاعات خاطفة، وعمَّ سريعا ظلام في الصالون والبيت كله، وامتزج صوت تحطم المصابيح الصغيرة بعويل أمي الفاحم: يا شحاراااييي، احترقت إجراااي، احترق البيييت.

في هذه اللحظة أنهتْ مؤدية هذا المشهد كلامها قائلة: ساد في بيتنا صمت أشد ظلاماً من اسمي الذي تعرفينه وتعايشت مع رعبي منه ومن أمي، كأنهما عقربان يسعيان في الظلام. ثم سرعان ما فاجأتني بأن أتبعتْ كلماتها هذه باسترسالها في ضحكٍ مقهقه، فقمتُ أنا عن المقعد في المرسم واسترسلتُ في قهقهاتي مقتربةً منها، فعانقتها وهمستُ في أذنها: بشعون، قذرون، أشرار. هيا نذهب معاً إلى السينما لنحضر فيلم بشعون قذرون أشرار الذي حضرتُه قبل أيام لمخرجه الإيطالي العظيم إيتوري سكولا. أريدكِ أن تشاهديه. فيه الكثير مما رويتِه الآن. وفيه شخصية تشبهكِ وتشبه أختك إخلاص، وشخصية أخرى تشبه أمك. استمرت تقهقه وابتعدت قائلة: نأخذ أمي معنا أيضاً، ونجلس في مقاعد البنوار، فنحضر فيلمين دفعة واحدة. أمس حضرتُ هذا الفيلم، فذكّرني بطفولتي وفتوتي في النبعة، وبصَبيّة من بنات جيراننا هناك، كانت تهوى فدائياً فلسطينياً، فأُغرمتْ به أمها الأرملة وأغوته بجمالها، فتزوجته وأسكنته في بيتها مع بناتها الثلاث. بعد مدة قصيرة على زواجهما، وفي صبيحة نهار أحد دخلتْ ابتها الصبيّة التي كانت تهوى الفدائي حمّام البيت لتستحم، فصبّت كازاً على شعرها وثيابها وأحرقت نفسها. 


حينما خرجنا من المرسم في عصر نهار الأحد ذاك، وقفنا في مدخل البناية حائرتين صامتتين، وغير راغبتين أن نفترق، من دون أن ندري ماذا يمكن أن نفعل وإلى أين نذهب، ومدركتين أن وقفتنا تضاعف حيرتنا وعلينا أن نغادر. أين السيارة؟ لنذهب إلى السيارة، قلتُ لها وسبقتها في التقدم إلى الرصيف. وفيما هي تشغّل محرك سيارتها سمعتُ صوت أذان بعيد، فسألتها عمّا حلَّ بذلك الشاب الكئيب الذي تعلّق بها وكان يهواها هوىً خائباً ويتيماً، أيام اصطحبتني مرات إلى سهرات في بيته كانت تلتقي فيها شلة من أصحابه اليساريين غير الشيوعيين وكانوا طلاباً معها في الجامعة، وجعلوا شلتهم وسهراتها المحمومة طقساً لخيبتهم النضالية، ولتوبتهم عن الانضواء في المنظمات المسلحة المقاتلة في الحرب، وكفارة عن شعورهم بخيانة النضال ورفقة السلاح. وكان شاب منهم يغنّي ويتلو القرآن بصوته الجميل في تلك السهرات البيتية، فيما هم يشربون ويثملون. تقصدين السهرات في بيت خندق المواجهة؟ - سألتني، ثم تابعت: حبيبي، أين أنت يا خندق المواجهة، وشاعر زهرة الإيديولوجيا. لكن ما الذي ذكَّركِ به الآن؟ صرختْ متساءلةً، فيما هي تلتفتُ إليَّ مقهقهة، وتنطلق في سيارتها قائلة: حبيبي، ربما صارت زهرته تلك شجرة مثمرة في بيته المهجور. مقهقهة بدوري قلت لها: قد تكون أثمرت تفاحاً نضج وحان قطافه. وإذ فكرتُ أن لقاءنا وما روته وأدته في المرسم أسكرها وغيَّر شيئاً ما في مزاجها ونفسها، وقد نستمر في الكلام على موجة واحدة من السخرية والتهكم، تابعتُ قائلة: أوصلكِ إلى بيته وأغادر، وكما أغوتْ حواءُ آدم بتفاح الجنة تسقطان أنتما في الخطيئة، تفقدان العذرية، تودعانها معاً، ثم تهجرينه وتنسينه، وإذا صادفته في مكان ما، ترحبين به، تقبلينه وتشعرينه بأن بينكما علاقة خاصة، ثم تودعينه فجأة وتغادرين، كأنك لن تلتقي به مرة أخرى، لكن شريطة أن تنسي وجوده فعلاً فور مغادرتك المكان، ألا تريدين أيضاً أن أغني له قبل أن أتركه وأغادر؟ - قالت مقهقهة - وراحت تغني: منتاش خيّالي يا ولد منتاش على بالي والنبي.

* الفصل الثالث والأخير من رواية "نساء بلا أثر" الصادرة للتوّ لمحمد أبي سمرا لدى "دار الريس للكتب والنشر".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم