السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

أسرار وخفايا سلب صندوق أمانات كلّيّة بيروت الجامعيّة سنة 1980

المصدر: "النهار"
العميد المتقاعد أنور يحيى-قائد سابق لوحدة الشرطة القضائية
أسرار وخفايا سلب صندوق أمانات كلّيّة بيروت الجامعيّة سنة 1980
أسرار وخفايا سلب صندوق أمانات كلّيّة بيروت الجامعيّة سنة 1980
A+ A-

نحو الساعة الواحدة من فجر العاشر من كانون الأول عام 1980، اقتحم خمسة شبّان مقنّعين ومسلّحين بمسدّسات حربية ظاهرة، البوابة الجنوبية لكلّية بيروت الجامعية، في محلّة رأس بيروت، بعدما هدّدوا الحارس الليلي، شوقي، الذي أحكم إقفالها بحسب التعليمات. الليلة كانت عاصفة، ممطرة وشديدة البرودة، وطلبوا إليه إرشادهم إلى جناح السيدة هدى، مديرة القسم الداخلي للبنات في الكلّية، مدّعين أنهم من أمن الـ 17 في الثورة ويريدون استيضاحها في قضية أمنيّة عاجلة!! ويتكلّمون اللهجة الفلسطينية. 

استمهلهم لمراجعة مدير الكلية، الدكتور فوزي الحجار، لكنهم ضربوه وهدّدوه بالموت بالرصاص إذا تلكّأ عن تنفيذ أوامرهم الفوريّة.

سار برفقة ثلاثة من المسلّحين، فيما بقي اثنان قرب المدخل للحماية، وطلبوا إليه طرق باب السيدة هدى على أن يقف هو وحده أمام المنظار، لتطمئن لوجوده منفرداً، ثم يدخلوا فور فتحها الباب.

- مين عم يدقّ الباب بها الليل؟

- أنا شوقي، افتحيلي ست هدى إذا بتريدي في شي ضروري!

- شو في يا شوقي!!

تحققت أنه بمفرده من خلال منظار الباب الموصد ففتحت له، لكن ما إن فتح الباب حتى اندفع من وراء الحائط ثلاثة شبّان مقنّعين ويحملون المسدّسات الظاهرة وطلبوا إليها تقديم سجلّ بأسماء الطالبات في القسم لديها وإلّا قتلوها! قيّدوا، سريعاً، الحارس شوقي بحبال قصيرة وألصقوا فمه وتولّى زمامه أحد الثلاثة، فيما دخل الآخر غرفة المديرة التي صرخت:

- دخيلكم تركوا بيي الختيار والمريض وخذو اللي بدكن ياه!!

صودف أنّ والدها حينها كان يبيت ليلته في غرفتها في الكلّية.

ما لبث الجناة أن طلبوا إليها فتح صندوق الأمانات، حيث تستودع كل طالبة ما لديها من مجوهرات وأموال خوفاً عليها من السرقة، بدؤوا بتقييدها ووضع اللاصق على فمها وهي عاجزة عن مقاومتهم، ففتحت الصندوق. أخذوا الساعات والمجوهرات والأموال، وضعوها في كيس بحوزتهم وكبّلوها بعد تثبيت اللاصق على فمها وهدّدوهما بعدم الحركة، ثم نزلوا بسرعة ليخرجوا من البوابة الجنوبية مع رفيقيهما دون مواجهة أحد لهما. بعد قليل، وللتحقق من مغادرة المسلحين جناح السيدة هدى، تقدّم الوالد ونزع اللاصق وفكّ قيود شوقي وهدى التي استدعت الفرقة 16 للمؤازرة، واتصلت بمدير الكلّية الدكتور فوزي الحجار لإعلامه بالحادث.

حضرت دورية من شرطة حبيش، ودوريتان من الفرقة 16 (الطوارئ) إضافة إلى دورية من الأدلّة الجنائية، للتفتيش عما تركه الجناة من الأدلّة والبصمات في مسرح الجريمة بهدف التعرّف إليهم، الذين لم يتركوا أيّ أثر لهم سوى الرعب والهلع لدى هدى وشوقي، لا سيما أنهما بعيدان كل البعد من العنف وأجواء الاستخبارات!! ادعت السيدة هدى والدكتور حجار ضدّ مجهولين بسلب صندوق الأمانات وتهديد حياة السيدة هدى والحارس شوقي بالموت، وظلّت إجراءات فصيلة شرطة حبيش دون نتيجة، نظراً لسرعة الجناة بتنفيذ العملية مستترين بأمن الـ 17!! وارتداء أقنعة على وجوههم، ولكن الأكيد أنّ اللهجة فلسطينية!

أحال النائب العامّ الاستئنافي في بيروت، القاضي منيف عويدات، الملف على مفرزة بيروت القضائية، تحرّي بيروت، كما أنّ اللواء أحمد الحاج، المدير العامّ لقوى الأمن الداخلي اتصل بالرائد عبد الكريم إبرهيم، آمر المفرزة، لتكثيف الجهود لكشف خفايا عملية سلب صندوق الأمانات من كلية بيروت الجامعية، التي تضمّ مئات الطلاب والطالبات من لبنانيين وأجانب، ومن طوائف مختلفة، ولا سيما أنّ الصحافة المحلّية طالبت القوى الأمنية بالمحافظة على حياة المواطنين وحماية ممتلكاتهم وفقاً للدور المرسوم لها بحسب القانون.

كلّف الرائد آمر مفرزة التحرّي الملازم الأول أنور يحيى، الملتحق حديثاً بالمفرزة، بعد إتمام دورة تدريبية مع جهاز مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي FBI بحقل التحقيقات الجنائية لمتابعة ملفّ الجريمة، لا سيما أنّ بين المسروقات ساعة ثمينة أهداها الشاب نبيل إلى الطالبة الأردنية لينا لوزا، علامة خطوبة بينهما، بعدما أوهم والدته، صاحبة الساعة الثمينة (ماركة لونجين من الذهب الأبيض والمرصّعة بالألماس والتي تفوق قيمتها الثلاثين ألف ليرة لبنانية حينها)، بأنه سيودعها البنك خوفاً عليها من السرقة إذا بقيت في منزلهم، محلّة عائشة بكار، بيروت، نظراً لكثرة المسلحين واللصوص..

على الفور، شكل الملازم الأول فريق عمل من رجال التحرّي ويضمّ دورية قوامها:

1- المعاون حسين المقداد.

2- الرقيب الأول جعفر فحص.

3- الرقيب الأول علي الخضري، للعمل بسرّية تامّة وجمع المعلومات والاستقصاءات عن الجناة، وحيث يحتمل مشاركة أحد الطلاب بعملية السلب، نظراً لتوجّههم فوراً إلى صندوق الأمانات في القسم الداخلي!

تم الاستحصال على رسوم للمجوهرات المسلوبة وأصحابها، التي فاقت قيمتها المئة والعشرين ألف ليرة لبنانية، ثم أمضى أفراد الدوريات ساعات طويلة بالتفتيش عن مخبرين بين الطلاب ومعرفة أسماء الطلاب الفلسطينيين وتوقيت صفوفهم في الكلّية، وقدم أحد الطلاب، ابن ضابط في الشرطة، التعاون التامّ مع التحرّي وأعلمهم بأنّ الطلّاب:

حسام ج. (فلسطيني)، كمال ح. (لبناني) ومالك ر. (لبناني)، قد أقدموا على سرقة آلات كاتبة من مبنى النيكل، ضمن حرم الكلية وعلى فترات متقطعة، وربما باعوها إلى إحدى المدارس في منطقة برج البراجنة لقاء مبالغ ليست كبيرة.

تحقّقنا من سرقة 15 آلة كاتبة وعلى دفعات من مبنى النيكل، لكنّ إدارة الكلّية لم تدّع لدى النيابة العامّة نظراً للأحداث وانتشار المسلحين، ولعدم الثقة بقدرة القوى الأمنية على استعادتها، كما استحصلنا على أرقام الآلات الكاتبة بغية التحقق من صحّة المعلومات..

تعرّفت الدورية إلى شلّة الشبان الثلاثة، ومنها:

الفلسطينيان: محمد وتوفيق، اللذان يعملان في مكتب أمن قيادة عسكرية غير لبنانية.

كانت العاصمة بيروت ترزح تحت سلطة حواجز القوّات السوريّة العاملة كقوات ردع عربية، ودوريّات الأحزاب المسلّحة الموالية لسوريا.. سلاح متفلّت، عناصر أمنيّون لبنانيّون وعرب يتحرّكون بمرونة تبعاً لتفاهمات مع القيادة الفلسطينية والسورية، وعلى القوى الأمنية اللبنانية التنسيق معهم للحصول على المؤازرة المطلوبة.

أوقف الطلاب الثلاثة أثناء خروجهم تباعاً من البوابة الشمالية للكلية، وبوشر التحقيق معهم في المفرزة حيث اعترفوا بإقدامهم على سرقة 15 آلة كاتبة وبيعها إلى إدارة مدرسة في برج البراجنة لقاء حفنة قليلة من الأموال، نظراً لحاجتهم إليها!! وبالتنسيق مع الكفاح المسلّح، المسؤول ضمن المخيّم، تحقّقنا من أرقام الآلات الكاتبة وبناء لإشارة النيابة العامّة استعدناها إلى المفرزة، كذلك ترك من اشترى المسروقات بسند إقامة تسهيلاً لعملية الإعادة إلى أصحابها الحقيقيين.

كذلك تمّت استعادة الساعة الثمينة، لونجين، إضافة إلى مجوهرات أخرى، بالتعاون مع أحد المخبرين السرّيين والمقرّب من أمن الثورة وكانت ما تزال على قيمتها، ولم ينزع عنها أيّ شيء وقد عرضها أحد الصاغة في المخيّم بمبلغ عشرين ألف ليرة لبنانية علماً أنه اشتراها بألفي ليرة لبنانية!

أوقف محمد الذي اعترف بمشاركته في عملية السلب مع كمال (الطالب) وآخرين، وسطّرت برقيات بحث وتحرّ عن بقية المشاركين في العملية الذين تعذّر توقيفهم لفرارهم إلى مخيّم عين الحلوة!

لم يصدّق مدير كلية بيروت الجامعية أنّ الشرطة القضائية تنجح في كشف خفايا عمليّة سلب صندوق الأمانات الخاصّ بالطالبات في القسم الداخلي، وتوقف الجناة الذين تنكّروا بأقنعة لإخفاء وجوههم، وتسترجع المجوهرات الثمينة، بما فيها الساعة المرصّعة بالألماس، إضافة لاستعادة الآلات الكاتبة التي لم تدّع الكلية بسرقتها لعدم إثارة البلبلة والشكّ في قدرات جهاز التحرّي بتنفيذ القانون وملاحقة الجناة في ظلّ انتشار المسلّحين والميليشيات وأجهزة الاستخبارات المتعدّدة في لبنان حينها.

 قدم مسؤولو الأمن المركزي الفلسطيني والكفاح المسلح، المؤازرة اللازمة لنا أثناء عمليات المطاردة للمشاركين في العملية واستعادة المسروقات.

بتاريخ 20 شباط 1981، حضر إلى دائرة تحرّي بيروت كلّ من:

1- العميد محمود طي أبو ضرغم، قائد الشرطة القضائية.

2- الدكتور فوزي الحجار، مدير كلية بيروت الجامعية: BUC.

3- السيدة ناهد ر. صاحبة الساعة الثمينة لونجين، التي قدمها ابنها نبيل إلى الطالبة لينا لوزا حيث استودعتها صندوق الأمانات في القسم.

4- السيدة هدى ب. مديرة القسم الداخلي للطالبات في الكلية.

5- الرائد عبد الكريم إبرهيم، آمر مفرزة بيروت القضائية.

بحضور وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمشاهدة، وخلال مؤتمر صحافي، سلّم قائد الشرطة القضائية المسروقات إلى أصحابها، ورفضت السيدة هدى مقابلة أيّ من الجناة الموقوفين في نظارة المفرزة لخشيتها منهم خوفاً من إطلاق سراحهم لاحقاً والتعرّض لها، كما هنّأ العميد أبو ضرغم الملازم الأول والدورية لجدارتهم وشجاعتهم وحرفيّتهم باكتشاف الجناة وتوقيف بعضهم واستعادة القسم الأكبر من المسروقات، رغم انتشار المسلّحين وانتمائهم إلى تنظيمات خطرة. كذلك أشاد الدكتور حجار، مدير الكلية، بهذا الإنجاز الهامّ الذي يعزّز الثقة بقدرات أجهزة الدولة بالتصدي للجرائم وتوقيف الجناة مهما اشتدت عزائمهم، مقارنة بقدرات الدولة، كما ارتاحت السيدة هدى التي تعرّضت للتهديد بالموت من أسلحة حربية كان الجناة ينقلونها، لإجراءات التحري التي عززت ثقتها بهم وعدم الخوف من المسلحين. كذلك أشادت الصحف بهذا الإنجاز، وعادت الكلّيات والمدارس آمنة بوجود التحرّي الساهر على السلامة العامّة مع بقية الأجهزة الأمنية.

نوَّه قائد الشرطة القضائية بعمل تحرّي بيروت، كما أصدر اللواء المدير العام لقوى الأمن الداخلي القرار رقم 857، تاريخ 5 أيلول سنة 1981، الذي قضى بمكافأة كلّ من:

1- الملازم الأول أنور يحيى، مساعد آمر مفرزة بيروت القضائية، بمبلغ 500 ليرة لبنانية.

2- المعاون حسين المقداد – الرقيب الأول جعفر فحص - الرقيب الأول علي الخضري، كلهم من مفرزة بيروت القضائية، بمبلغ 300 ليرة لبنانية لكل منهم للسبب التالي:

"قام بتحرّيات دقيقة لكشف ملابسات عملية سلب مسلّح ومعرفة الفاعلين والقبض على ثلاثة منهم وضبط قسم كبير من الأموال المسلوبة وإعادته إلى أصحابه".

إنّ إعادة الثقة بأجهزة الدولة الأمنية والمكلّفة وحدها حفظ الأمن وبسط السلامة العامّة، ترتكز إلى كفاءة هذه الأجهزة وخضوعها للتدريب المستمر وتنفيذ مهامّها بشفافية تامّة بعيداً من الفساد والرشى، بإشراف النيابة العامّة المختصّة، مواكبة لتطوّر الجريمة وأساليب المجرمين الذين ربما يعتمدون تقنيّات أكثر حداثة من الشرطة، لا سيما جرائم الإرهاب والإتجار بالمخدّرات وتبييض الأموال والإتجار بالبشر، وإعطاء الفرصة لها للقيام بالمهامّ الملقاة عليها.

لكن هل يفسح السياسيّون وقادة الأحزاب الذين يتحكّمون بالسلطة التشريعية، التي تراقب عمل الإدارة، وهي عينها التي تشكل الحكومة، السلطة التنفيذية التي تدير البلاد، في المجال لهذه القوى الأمنية الشرعية التي تختزن القدرات الهائلة للقيام بعملها لحفظ النظام وتوطيد الأمن وحماية الأشخاص والممتلكات ومنع ارتكاب الجرائم وملاحقة الفاسدين في الإدارة والمدعومين ممّن عيّنهم من الزعماء الذين يديرون الدولة، وقدموا لهم الحماية مقابل الولاء والخضوع التامّ لزعامتهم؟

 
[email protected] 


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم