الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

قلادةٌ في الضفة الأخرى: البحر الغادر مُلتهماً أخاها الذي ترك البيت ولم يهاتفها

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
قلادةٌ في الضفة الأخرى: البحر الغادر مُلتهماً أخاها الذي ترك البيت ولم يهاتفها
قلادةٌ في الضفة الأخرى: البحر الغادر مُلتهماً أخاها الذي ترك البيت ولم يهاتفها
A+ A-

بِعَينيْها الكليلتيْن، تُتابع قوافلَ السيارات والشاحنات، التي تترنَّح في أشكالها وألوانها، وتتدافع ببطءٍ نحو بوابة الباخرة الإيطالية الضخمة، المتأهبة للإبحار نحو الضفة الأخرى. بدت لها هندسةُ الباخرة مُتقادمة سقيمة: ينطوي بطنها على سبعة طوابق للمسافرين، وبمحاذاتها ثلاثة مرائب للمَرْكبات، من مختلف الأحجام. ومثل حوتٍ خُرافي يلتقم فرائسه، ترى فمَ الباخرة يزدرد السيارات، وبعضَ الرَّاجلين، بعد أن استعرضوا جوازات سفرهم ووثائق العبور.  

وكان أفراد الطاقم الإيطاليون، وبمعاضدة شرطة حدودهم، يحضّون المسافرين على الإسراع في رَصْف عجلاتهم داخل المربعات الضيقة، وقد يَنهرونهم في فظاظةٍ، أو يشيرون إليهم بأيادٍ تحمل أثر الكِبرياء، ومتانة الغاصبين. كان صياحُهم يكسر رتابة الضجيج، فتتناهى أوامرهم إلى مسامعها، فلا تستبينها وَسْط جلبة المُحرِّكات، وصخب العابرين، وصراخ الرُّضَّع، فيزيدها كللُ الانتظار تبرمًا. وبعد ساعاتٍ من الازدحام والترقب، انغلقت البوابة أخيرًا، وتحركت السفينة ببطءٍ، تتمطى مثل حوتٍ جريح نحو أفقَ البحر الفاغر، وقد امتلأت رحباتُها وطوابقها الموحشة بمئاتٍ المسافرين، وأغلبهم من أبناء الجالية، المقيمين بفرنسا أو إيطاليا.

دلفت الفتاة النحيفة إلى ردهة الطبقة التي ستقضي فيها رحلة الثلاثين ساعة. وهي قاعة شاسعة، انتظمت وسطها الأرائِكُ، مثل انتظامها في صالة سينما. اختارت أريكة منعزلة في الطرف الأقصى، وتهالكت عليها مرهقةً، دون أن تشعر بالحنق لأنها لا تملك ثمن غرفةٍ فرديةٍ أو حتى مشترَكة. بل كانت، واجمةً تائهةً، تتلمس جيدَها كأنما تلاعب قلادةً. ولم تستسلم للنوم، ولم تهدأ يداها عن التلمس، كما لم يسكُن أمامها عمال النظافة وطاقم المطاعم والمقاهي، يسعون بين الغرف والطوابق، يتجنبون الحقائب والأغطية البالية.

وما لبثت الفتاة النحيفة أن تسللت بين كتل الأزواج القابعين، محاذرةً الاصطدام بأبنائهم النائمين، المنتشرين في الممرات، كأكياسٍ على الموانئ المهجورة. وعلى وجه كل واحدٍ منهم، توسمت قِصة طفولةٍ وألم، وربما حُلم مهاجرٍ وأملاً... وتذكرت في استسلامٍ كيف التَهَم البحر الغادر أخاها الذي ترك البيت ذات مساء، ولم يهاتفها إلا قبل أن يستقلَّ المركب المطاطي بدقائق، في تلك الليلة الموحشة، حين كان يهم بالعبور باتجاه شاطئ الشمال. فاستعادت صور زوارق "الحَرَّاقَة"، يغادرون من ضفة الجنوب نحو آفاق أوروبا، تعرضها نشرات الأخبار في التلفزيون ببرودٍ، بعد أن تستعرض أحداث العالَم الأهم. وأحيانًا، يعنُّ للمذيعة أن تربط بينها وبين خبر نُفوق حوتٍ قذفت به الأمواج العاتية، ورمت به على الشاطئ جثةً.

"داخلُه مفقود، والخارجُ منه مولود". هي الوحيدة التي افتقدت أخاها، واكتوت من انطوائه في أحشاء البحر الماكر. شدة الحرِّلا تطاق. والعطشُ يغيظ حلقها. وفي كل بحر شُبهة هلاكٍ. غابشقيقها ولم يعدْ،لا وليدًا ولا فقيدًا. ومازال عمال النظافة يتصايحون، وجماعات المُستلقين يثرثرون، يُسبِلون الأغطية السوداء، بلون الموتِ، وجلبة المحركات تعلو في كِبرياء الحديد، والبحر يلتهم الباخرة والمدى، وهي تشق العُباب بثباتٍ.  

فكرت الفتاةُ في رتابة الشغل البغيض الذي ينجزه هؤلاء العمال، في زيهم الموحد: يجوسون خلال الطوابق السبعة، يلجون الغرف لتنظيفها. وفي كل سَفرةٍ، مرتَيْن في الأسبوع، يجمعون نفايات المسافرين، في حقدٍ صامتٍ... تجبرهم قوانين الملاحة على اعتبارهم "زبائن أعزَّاءَ". ثم نظرت من خلال كوة الباخرة البلورية، فغمرتها زرقةُ الماء وهي تشاكس القيظالخانق ورطوبة الهواء، في ذاك الغسق الحزين، وهاجمتها صورة غلاف "ياطِر" حنامينا، وبقرفها الثابت، مَحتها من خيالها، وأبعدت ما علق منها، خطوطها وألوانٍها والظلال. تساءلت: هل أدرَك كيف التهم البحر قوراب الموت التي يسيرها تُجار البشر؟هل صوَّر كيف كسروا زهراتٍ يانعة، وتركوا أمهاتٍ ملتاعاتٍ وأخواتٍ، ودموعًا منهنَّ لا تجفُّ؟ لطالما سمعت عن الوعود الزائفة بفردوس أوروبا، يبيعها المُهرِّبون إلى شباب بلدتها، شبابٍ تائهٍ لا يرى الدنيا إلا ضفةَ الشمال، وكنزُ كنوزه "الفيزا". وإن عجز أحدهم عن اجتنائها، أهدى نفسه إلى البحر قربانًا، يُزجيهِ، في جُنح الظلام، على قوارب المطاط الرخيصة، مع الرضُّعِ السود...

حصلت على ورقة عبورها، تميمةِ سفرها، من طريق الصدفة: قبل شهرين، التقى بها أحد موظفي القنصلية الإيطالية في شارعٍ مزدحم. كان يبحث عن مكتبةٍ لاقتناء رواية "الياطر"، فصادفها تتأمل واجهات المحلات في شرودٍ، وسألها، بعربية ركيكةٍ، عن أقرب مكتبةٍ. وبنفس الشرود رافقته، حين رأت أنه لا يفهم توجيهاتها، وكانت متداخلةً. جالت بعينيها في أغلفة الكتب، ومنها كاتالوغات زرقاء، بلون المحيطات، بها عتمة الأعماق وسِحرها. وعادت إلى ذهنها، للحظةٍ، مكالمة أخيها الأخيرة: "الليلة أركب القارب، وإن شاء الله أهاتفك من جنوة". استلطفها الموظفُ، وربما شَدَّهُ وجومُها، فدعاها إلىتناول قهوةٍ. لم تمانع، ولم تتساءل. حدثها عن عمله الرتيب بالقنصلية، وعن هواياته، ومنها شغفه بالصَّدَف والمحار الذي تتقاذفه الأمواج، وترمي به على شواطئ بلدها الممتدة. ظلت واجمةً، ترد بابتساماتٍ خافتة وكلماتٍ غائمة...ثم استجمعت شجاعتَها، وصارحته بشغفها هي بمعهد المحيطات، في بالرمو، وناشدته المساعدة على الفيزا. تحلم بزيارة معهد المحيطات؟ آخٍ، لموارباتِ أختٍ التَهَمَ البحرُ شقيقها. كم يُوجعها ملمس الغرق.

وعادت تتلمس جيدَها وتستذكر كيف أرجع لها الموظف، بُعَيْدَ أسبوع، جواز سفرها، ممهورًا بتأشيرة دخولٍ. ودون شعور منها، تحسست رقبتها من جديد، ثم حقيبتَها وجواز سفرها، كأنما تتأكد من انطباع التأشيرة على صفحاته الأولى. واستدارت نحو ردهة الأرائك، فإذا بها أكثر اكتظاظًا، يتدافع إليها المسافرون المنفردون، وبعض الأزواج بأبنائهم، ومنهم رضعٌ، وبدأت "تلك الروائح" تنبعث فتتجمع مثل دوائر الدخان.

وظلت الأمواج تتقاذف الباخرة وتهدهدها، وهي تمخر عباب المتوسط في استعلاء، هازئةً بالأنواء التي تطيح بقوارب المطاط، فترميها على الشاطئ، مثلما ترمي المحارَ الفارغ الذي شغفَ موظف القنصلية. أغرق الماء الحدودَ، وبدَّد حروفَ الوثائق، فذاب حبرها الأسود في زرقته الجوفاء. وكم ألقى المهاجرون الأفارقة جوازات سفرهم في البحر، حتى لا تكتشف هوياتهم، فَيُرَحَّلوا إلى بلاد الجنوب.

توقَّفت الباخرة بعد رحلة الثلاثين ساعةً، وغادرت الفتاة البوابةَ مترجلة نحو اليابِسة، ومدت يدها المرتعشة إلى حقيبتها وأخذت منها ورقة رُسم عليها اسمُ المُهرب الذي غَرَّر بأخيها، وعنوانَه في مدينة جنوة الصاخبة. لا تريد الانتقامَ ولا فهم ما حصل، إذ لم تصمد في باطنها الانفعالات. تريد فقط استرجاع قلادةٍ ذهبيةٍ كان أخوها يحملها تذكارًا من أمهما، التي رحلت من سنين عددًا. قيل لها إن المهرِّب اقتلعها من جيد شقيقها بعيد موته، في القارب، عطشًا. أخذها وألقى بجثته في اليمِّ أمام عيون كليلة لثلاثين مهاجرًا، وفيهم رضعٌ سودٌ.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم