السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

في وداع صائفةٍ ومسابحها... الجسد مُعلِّقاً عليه ما شاء من قصص الطفولة

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
في وداع صائفةٍ ومسابحها... الجسد مُعلِّقاً عليه ما شاء من قصص الطفولة
في وداع صائفةٍ ومسابحها... الجسد مُعلِّقاً عليه ما شاء من قصص الطفولة
A+ A-

تتهادى "أمواجُ" المسبح الاصطناعيَّة في رتابة وتَفانٍ، مسبحٍ يتوسط هندسةَ فندقٍ، ليس بالفاخر ولا المُبتَذَل، من فنادق الساحل القِبْلِي. وفي مِساحاته المُربعة والدائرية، تمتزج زرقة المياه بخضرة النخيل، شُجيراتٍ استجلبوها لغير أرضها، وقسرًا غَرسوها على الضفاف الصلدة، إيهامًا للسائحين بامتداد الواحات في أحياء المدينة الحديثة وتقاسيمها. وخارج بَهوِ الاستقبال، عُلقت لوحةٌ ضخمة، من تصميم وزارة السياحة فيها واحة غنَّاء، تحيط بها نخلات باسقة، ثمراتها دانية. وعلى ضفتها، طفلان يبتسمان. والأمُّ حَوْراء العينيْن، اعتمرت قبعة أوروبية، وقفطانًا زاهيًا. رسمت أمام شفتيها دائرة فيها كلمةُ: welcome.

وأمام اللوحة، تتراءى عاملات التنظيف بأثوابِهنَّ البيضاء الموحدة، كأنهن غزلانٌ على كثيبٍ، وهن أيضًا استُجلبن بقهر الفاقة لغير أرضهنَّ لخدمة السائحين، وتزيين أرقام الوزارة: كالأرْآم، يتسارعن أمام أحواض المسبح المتلاصقة، التي تفوح منها روائح الكلور البغيضة، ويَذرعن مَعابر الفندق، بين الأشجار والأرائك، مُنهكاتٍ، لفحت الشمس الحارقة وجوههن، وارتسمت عليها - كلما صادَفن المديرَ البدين - ابتساماتُ المُجاملة والفَراغ. فبأمر جَنابه، يقضين زهاء عشر ساعاتٍ في اليوم يلتقطن طِوالها تفاهات المصطافين من بيوتهم ومخادعهم، ويتعقبن سخافات المراهقين، وجبالاً من قوارير العطش.

وعلى حافة المسبح، يقبعُ "السباحان- المنقذان" وقد لَفحت الشمس منهما الوجوه وأشعلت النظرات. ومن لمعة الفجر إلى مغيب الشمس الحارقة، يشرفان على استجمام الصغار من أبناء المصطافين، ويراقبان حركاتهم في الماء والارتماءات. أعصابُهما مُنشدة، والكلماتُ مُتَوترة، والضحكات موتورةٌ، لا يهدآن عن الحركة جيئةً وذهابًا، ولا يحق لهما أن يستريحا للتدخين، إلا لِلَحظاتٍ يسترقانها من أعين المدير البَدين، وعَينُه على الجميع.

وتنبعث في الأجواء موسيقى صاخبة رتيبة، تعيد الاسطوانة المقيتة عينها، تلوكها الآلات السوداء ومضخماتها المزعجة، تذيع نشازًا يصمُّ الآذانَ ولكنه يهيج جمهورَ النزلاء. وعلى إيقاعه، تتراقص، في سماجةٍ، شابات يانعات، أتعبهن السهر والنظر في الشاشات. وبعدما يَهُدُّهنَّ الاهتزاز، يجلسن أمام ماءٍ "بِلونٍ الغرق" وطَيْفِ الشتات، فترتسم حينها فسيفساء أجسادٍ، تغذيها ألوانٌ بلفح العطش، وأحجامٌ بتِيهِ الوحشة: بعضهن تَبَرقع والتفَّ في أقمشة حياء غابر، وبعضهنّ الآخر تعرَّى باهتًا متحديًا، يعانق الشمس وذكرى فُصولِ رواياتٍ جريئةٍ.

وتنبعث من بين الأجساد المستلقية رطاناتٌ كأنها فقاعات ماء تسري في الهواء، ولا معنًى يُفهم من جملها المتقطعة، بل لَكَناتٍ وجَلبة، تتعدد بحسب السواح وأصولهم : ففيهم، وهم الأقلون، مَن وَفَدَ من مدن أوروبا الشرقية، التي ما تزال فقيرةً، وفيهم مَن قدِم بَرًّا من بُلدان العرب المجاورة، وهي أيضًا فقيرة. ووصلت البقية الغالبة من مناطق البَلد الداخلية، تهتف لديمقراطية السياحة، وتسب النظام البائد، الذي حرمها من "خيرات البَلد"، حين باعها بثمن بخس للأجانب :" يلتهمون الثمارَ وينشرون الفجور".

وتنساب بهؤلاء لحظات يومهم بطيئةً تَتَمطى، تغازلهم "فرحة الحياة" التي روَّج لها رئيس النظام البائد، حتى ملأت خواطرهم الجائعة. ولَذع الجوع خيال وخطاب. وتدب حركة متقطعة في الأجساد، فترتمي من جديدٍ في مياه المسبح لساعاتٍ، بلا كللٍ، كأنَّ لها ثأرًا تأخذه منها. وصار الذي كان منه "كلُّ شَيءٍ حيٍّ" يفور في عروقها رقصًا متشنجًا، ويعتو في وجوهها قهقهاتٍ فيها شيءٌ من قهر السياسة. والأمهات منهن ينظرن إلى بريق الوداعة في عيون صغار الصغار. ويستذكرن، في كل ارتماءَةٍ، كدَّ السنة كلها حتى يُوَفِّرن ثمن هذه الأيام المعدودات السريعات في فندق، قِيلَ عن نجومه إنَّها خمسةٌ. وكذلك كدَّت وزارة السياحة في ترويج ملصقتها تلك، في القارات الخمس، عن البلد وجمال طبيعته، مؤكدة، من غير أدنى مناسبةٍ، أنَّ الأمن عاد واستتب، وأنَّ القفطان البلدي الزاهي يعانق القبعة الأوروبية، دون غضاضة. وتتالت منها الدعايات واشتغلت ماكينات دُعابتها ودعارتها أملاً، - والأمل من مُحييات المال- أن تفترس خيال المصطافين من تلك القارات، وتصيد أحلامهم بجنةٍ تحت شمس ساطعة ومياهٍ صافية، تخوضها قامات الحرائر الهَيفاء. ولم يظفر الفندق سوى بِشِيبٍ من أوروبا الشرقية التي ما تزال فقيرةً، ومن البُلدان المجاورة، وهي أيضًا فقيرة.

فاضطر صاحب الفندق البدين أن يدير سِيرك الجسد مع مواطنيه من الطبقات الوسطى. فأتاح لكل واحدٍ أن يحملَ جسده كما يَلذ له، وأن يعلق عليه ما شاء من قصص الطفولة، شريطة أن يُزَيِّن أرقامَ الوزارة "التي سجلت ارتفاع نسبة السياحة الداخلية". وسادَ سوادُ العباءات الداكنة المِساحات المُربعة والدائرية. تخوف المدير ولكنه ابتسم عن مضضٍ وحَمد الله أنْ لم يقدر على هذه البهجة التي تكسو الجسد الطافح إلا موسرون من الطبقة الوسطى. وللكادحين البحر وملوحتهُ، ولظهورهم وصدورهم، الشمس ولفحها، وبعض الشواطئ الصخرية المهجورة، وهي متاحةٌ بأدرانها وأخلاطها. وإن احتاجوا، فسيُشغلهم هو في فندقه أيامَ المَوسم.

ومن الكادحين، تفانت العاملات بأثوابهن البيضاء، في تعقب ما تلقيه الأجساد من قوارير وكريمات الوقاية من الشمس... وأعقاب سجائر يلقيها الأزواج على حافة المسبح. وقد تطمع المسكينات في إكراميةٍ ضنَّت بها حتى جيوب السواح العرب بعد أن غاب الموسرون الأوروبيون، وإن صار يسارُهم، بعد الأزمة، محدودًا جِدًا.


ومن الكادحين أيضًا، يسعى السباحان- المنقذان طيلة اليوم إلى إسعاد المصطافين، ففي كل ساعتين يقترحان نَشاطًا رياضيًا سخيفا، وقد يعبثان بِشاشة الهاتف خلسةً، ينتظران هما أيضا إكراميةً، فالرواتب تأخرت جدًا هذا الشهر، وكلاهما يَعول أسرةً كبيرة. ويمنع عليهما المدير البدين أن يَرِدَا المسبح الذي يشتغلان فيه. وسَمح ذات مرةً - بعد الإلحاح الشديد- لأمِّ أحدهما أن تستجمَّ ساعاتٍ بالفندق: فدخلت بسواد عباءتها وَوَشْم يَديها، وسُرت برؤيته ابنها يجوب بين المقاعد البلاستيكية حتى تخيَّلت صادقةً أنه مدير الفندق، أو نائبه، فزغردت بأعلى صوتها وانحرج الابن فأشعل سيجارةً، أخذ منها نَفَسَيْن، ثم رَماها في المسبح وهو يلعن وزارة السياحة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم