الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

البندقية 74 – "مكتوب" لعبد اللطيف كشيش: البحث عن الزمن الضائع

المصدر: "النهار"
البندقية 74 – "مكتوب" لعبد اللطيف كشيش: البحث عن الزمن الضائع
البندقية 74 – "مكتوب" لعبد اللطيف كشيش: البحث عن الزمن الضائع
A+ A-

الطريقة المثلى لاكتشاف مكان، هي عبر التيه. عبد اللطيف كشيش فهم ذلك مبكراً، منذ أول أفلامه. فهو يضعنا في قلب نوع سينمائي نادر: ذاك الذي لا يملك وجهة محددة، الا انه خلال تسكّعه يمضي بنا إلى أماكن كثيرة بحجة الطريق.  

فيلمه الجديد، "مكتوب، حبي - الجزء الأول"، يفتتح بآية قرآنية: "الله هو نور السماوات والأرض". كلّ ما سنشاهده بعد ذلك، مبسَّط على ثلاث ساعات، يرعاه هذا النور المشع الذي ينبثق من مصادر عدة.

شاهدنا الفيلم في الثامنة والربع صباحاً خلال عرضه ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية أمس (30 آب - 9 أيلول). يعود كشيش إلى الـ"موسترا" بعد سبع سنين من عرضه "فينوس سوداء" هنا، وعشر على نيله جائزة لجنة التحكيم الكبرى عن "أسرار الكسكس". عقد كامل مرّ، تحوّل خلاله المخرج الموهوب سيد حرفة وصنعة، وانتهى بإسناد "سعفة" كانّ إليه عن رائعته "حياة أديل" (2013). جائزة أراد بيعها هي ومقتنيات أخرى في شهر آذار الماضي، لتوظيف المال في انهاء مونتاج "مكتوب"بعد انسحاب أحد الممولين إثر خلاف. كشيش أخلّ بالعقد، وقرر تحويل الفيلم إلى ملحمة عاطفية من ثلاثة أجزاء، طول كل واحد ثلاث ساعات. لقد تم حتى الآن، تصوير الفصل الثاني، والثالث سيصوَّر بعد عودته من البندقية.

"مكتوب" جدارية تعيد الإعتبار إلى القدر في حياة الفرد. آب من عام 1994 هو النقطة التي تنطلق منها الأحداث، ولا نعرف أين ومتى وكيف ستنتهي. استوحى كشيش من رواية "الجرح"(2011) لفرنسوا بيغودو، الكاتب الذي اقتبس منه لوران كانتيه فيلمه "بين الجدران" (2008).

"مكتوب" عمل هائل، بل ملحمة هائلة. انه "ورك إن بروغريس". عمل صريح، يهر من بين الأصابع كحفنة رمل. مشروع سينمائي في منتهى الطموح.

طوال ثلاث ساعات وبعض الدقائق الإضافية، نتابع يوميات شبّان وبنات عرب وفرنسيين في صيف 1994. من شواطئ سيت الفرنسية، إلى مزارعها عبوراً بحاناتها الليلية ومطاعمها، يقدّم كشيش تيليسكوباج لحياة صاخبة: حبّ وجنس وأحلام وعواطف وخيبات وغيرة وصداقات. هناك الفحل التونسي البلايبوي المحتال، وهناك المتصابي الذي يحاول حشر انفه بين صدور النساء، وهناك الذي يحاول استدراج سائحة شقراء إلى فراشه. وهناك الفتيات اللواتي يستسلمن...


عبد اللطيف كشيش خلال المؤتمر الصحافي أمس.  

يتبلور هذا كله تدريجاً على مرأى منا في مناخ من الحرية واللامبالاة والخفة، تمهيداً لاقتحام حياة أكثر نضجاً ومسؤولية. شخصية تتميز عن باقي الجوقة: أمين (شاهين بومدين)، الشاب المرهف الميّال للرومنطيقية هو مدخلنا إلى هذا العالم. أمين يلتقط الصور الفوتوغرافية ويحلم في صناعة الأفلام. انه صديق الكلّ وكاتم أسرارهم. الفيلم يبدأ به ويُختتم معه. دائماً يقف على الحافة، ينظر إلى الأسفل ولا يقفز. هذه الشخصية المغرية درامياً كونها تمثّل الكائن المتردد، هي "ألتر إيغو"المخرج. رحلتنا إلى التسعينات لم تكن لتكتمل من دون شريط صوتي يأخد الريبيرتوار الموسيقي لتلك الحقبة مرجعاً له، مع بعض الاختراقات الأوبرالية.

كشيش يعرف جيداً كيف يصوّر الشباب، ولكن الأهم انه يعرف أين يصوّرهم: في بيئتهم الطبيعية. وهو، كما يتأكد لنا مرة جديدة، مكتشف مواهب من الطراز الرفيع. وجوه جديدة يطلقها الفيلم. كلّ المشاركين فيه ما عدا اثنين يمثلون للمرة الأولى.

الفيلم تسيطر عليه ألوان المتوسط ونوره. الإحالات على سينما كشيش متعددة: الأزرق لون يتكرر في ملابس العديد من الشخصيات. الكسكس أو السباغيتي أكلة تحضر على كلّ الموائد. سيت تعود بيئة درامية مرة ثانية بعد "أسرار الكسكس".

طبعاً كشيش وفيّ لكلّ خصلة من خصال أسلوبه الـ"ناتورالي"البديع الذي صنع شهرته: مَشاهد ممتدة زمنياً، مقطّعة، تضخ الحياة في كلّ وحدة تصويرية.

الحياة بكامل بهائها وروعتها وبراءتها وسقطاتها المدوية ومجدها العابر واخطائها القاتلة، هي ما يحاول كشيش اقتناصه، مسنوداً بمدير التصوير ماركو غرازيابلينا. "مكتوب" احتفاء بالحياة، وما مشهد وضع النعجة لـ"مولودها" في مخاض ولادة شبه صامت الا أبهى أنواع تأكيد ذلك.

عندما يتأخر الفيلم على أجساد الشخصيات النسائية صعوداً ونزولاً، مراراً وتكراراً، خصوصاً لإلتقاط أرداف الفتيات وأشكالهن المكوّرة، لا يفعل ذلك لأسباب محض جمالية، بل تعبيراً عن هاجس الإشباع الجسدي الذي يسيطر على عقول الشبّان في أعمارهم هذه ويمسك بقدرتهم على الخلق.

توليد الألفة والطاقة، يعرف كشيش سرّه جيداً. هذه الكيمياء التي تربط الشخصيات بعضها ببعض الآخر، وحده سينمائي من طينته يعرف إبتكارها. أما العاطفة التي يصوّر بها شخوصه، فهذه تستحق ان تُرفع له القبعة.

أشياء كثيرة تحصل بالتوازي. كشيش يميل إلى سينما تتشكّل من تفاصيل. تقنياته السينمائية تخدم رؤيته للواقع: التمهيد المستفيض، إطالة الزمن، البنية السردية، الحوارات، المناخ الذي يتشكّل، كلها "خدع" كشيشية لبث الإحساس بالزمان والمكان. محاججة الرجل لطول فيلمه يشبه لوم بروست لكتابة "البحث عن الزمن الضائع". ثم ان التكرار عنده اصرار، تعنّت، تراكم، ضربات متتالية على وتر واحد لخلق صدى، التكرار هنا يخرج بحصيلة مختلفة في كلّ مرة. لا يوجد مشهد عند كشيش كآخر، مع ان كلّ المشاهد متشابهة.

أراد كشيش وضع أحداث "مكتوب" في منتصف التسعينات، قبل الاضطرابات الحالية وانعدام أشكال التواصل وتكريس ما يُفرِّق لا ما يجمع. فترة ينظر إليها بحنين. الفيلم خالٍ تماماً من التوتر الذي يتسم به القرن الحالي. هذا ليس تفصيلاً باهتاً. يلتفت الفيلم إلى الخلف كمحاولة لفهم الحاضر على ضوء الماضي. فالثمانينات والتسعينات كانتا أشبه بـ"صالون الانتظار" للألفية الثالثة. يصعب فهم ما حدث بعدها من دون محاولة فهم ما جرى في تلك السنوات. كشيش يعود إلى الينبوع.

لعبة شدّ الحبال تبلغ ذروتها في مشهد الملهى الليلي وهو قرابة النصف ساعة (الفيلم كله يتضمن 2500 لقطة).

أين أصبح هؤلاء جميعاً بعد مرور نحو ربع قرن؟ سؤال قد يجول في بال المُشاهد غير مرة. لحسن حظنا، لا يمدنا كشيش بالأجوبة الجاهزة، على الأقل ليس في هذا الفصل.

كتب ناقد على سبيل الذمّ ان "مكتوب" لا يروي شيئاً. لا يوجد مديح أكثر من هذا لفيلم مشغول بالبحث عن الزمن.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم