الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

الإنسان هو القضيّة وهو الحلّ

المصدر: "النهار"
الأب محسن عادل اليسوعي طبيب وباحث في العلوم الدينية والتربوية
الإنسان هو القضيّة وهو الحلّ
الإنسان هو القضيّة وهو الحلّ
A+ A-

في متاهات البحث عن حلول لمشاكل مجتمعاتنا الشرقيّة وهمومها وأوجاعها ظهر العديد من الآراء والإيديولوجيات التي تأرجحت بين "الدين هو الحل"، "الاقتصاد هو الحل"، "العمل هو الحل"، "الأمن هو الحل"، "السفر هو الحل"... وكثيرون قالوا، ومعهم في ذلك من الصواب: "إذا أردت أن تهدم أمة فعليك بثلاثة: اهدم الأسرة، اهدم التعليم، اهدم القدوة". ومعهم نقول: "إن أردت أن تهدم العالم فاهدم الإنسان". 

سألت مجموعة من الشباب ماذا تحتاجون حتى لا تتركوا بلادكم وترحلوا بعيداً، ويتوقف نزف الهجرة المستمر للعقول والكفاءات التي نحن بحاجة إليها؟ فكانت إجاباتهم وبترتيب الأهمية: 1. فرصة عمل كريمة 2. سكناً يسمح لي بالاستقلال وبتكوين أسرة 3. مدرسة محترمة قريبة من السكن لأبنائي 4. مستشفى نظيفاً به أطبّاء أكفاء. بالتأكيد هذه الحاجات الضرورية والمشروعة، لم تظهر وتترجم كل الحاجات الإنسانية كما ترجمها عالم النفس ماسلو في هرمه المعروف بـ "هرم ماسلو": 1. الحاجات الفيزيولوجية (هواء، ماء، طعام، نوم.. إلخ). 2. الحاجة للأمان (الأمان الوظيفي، الصحّي، السكني، المالي، المعنوي، السلامة). 3. الحاجات الاجتماعية (الأصدقاء، الزواج، العلاقات الاجتماعية). 4. الحاجة للتقدير (احترام الذات، احترام الآخرين له، الإحساس بالثقة والقوّة). 5. الحاجة لتحقيق الذات (الابتكار، حلّ المشاكل).

لاحظت أنّ حاجات الشباب في أيامنا هذه مرتبطة أكثر بقاعدة الهرم، الحاجة للبقاء (الحاجات الفيزيولوجية والأمان والعلاقات)، ولا تعطي اهتماماً كافياً بقمة الهرم، أي الحاجة للنموّ (للتقدير وتحقيق الذات). ولم تُظهر بشكل ملحوظ الحاجات الفكرية والروحية. وهنا نطرح التساؤلات التالية: هل تخلّى الشباب وبواقعية عن الحاجات العليا للإنسان وأضحى لا يطمح لأكثر من مجرد البقاء؟ هل قسوة الحياة وغياب الأمان والضمان استطاعت أن تسرق حلم الشباب في تقدير الذات وتحقيقها؟ هل سرقوا قدرة الإنسان على الحلم بعالم أفضل في وطنه؟ هل سرقوا منه الفرح بالوجود وبالحياة؟

تبّاً لمجتمعات متعطشة لسفك دم الإنسان. يكفي أن نشاهد ونقرأ ونسمع ما يدور حولنا، في مجتمعاتنا وبيوتنا وعائلاتنا، حتى ندرك الحقيقة المرّة، إننا نقتل الإنسان. هذا الإنسان قد يكون عدوّاً أو رفيقاً، غريباً أو قريباً، أخاً أو صديقاً، مهما تعدّدت صفاته ومسمّياته فهو إنسان. لقد طرح الفيلسوف إيمانويل كانت، وهو من آخر فلاسفة عصر التنوير (1724-1804)، أسئلة هامّة عدّة: فسئل عن المعرفة: ما الذي أستطيع أن أعرفه؟ وعن الأخلاق: ما الذي يجب عليّ أن أفعله؟ وعن الأمل: ماذا يدعوني للرجاء؟ وعندما فرغ من دراسة هذه الأسئلة فلسفياً طرح السؤال المهم: من هو الإنسان؟

إنّ مشاكل المجتمع والإنسانية لا تكمن بعيداً من الإنسان والحلول أيضاً لا تجدي نفعاً بدون الإنسان، فالإنسان هو المشكلة والإنسان هو الحلّ. فكيف يمكن أن نجعل من الفرد إنساناً؟ كيف يمكن أن نعيد بناء الإنسان؟ كيف يمكن أن نمنع اندثار الإنسان؟ هذه الأسئلة ليست دعوة للعقلانية أو للتصوف، بل لأبسط قواعد الوجود، أن نسمح بوجود الإنسان.

أن نسمح لهذا الكائن الحيّ بالوجود، بالتفكير، بالإبداع! إن ولد الإنسان فسيوجد العالم، وإن وجد الإنسان فسيتغير العالم. علينا بتغيير العالم للأفضل، لعالم يحترم الإنسان، يقدّر قيمة الإنسان، يدافع عنه، يغيّر القوانين ويبتكر الوسائل ليسمح له بأن يحيا ويتحرك ويوجد. وهذا لن يكون إلا من خلال الإنسان الذي تحرّر من عبودية المال والسلطة والجنس، فالإنسان الحرّ وحده القادر على أن يملأ الوجود بالأمل والرجاء، وحده القادر على الابتكار والإبداع، على تذوق الفنّ والجمال، على الدفاع عن المظلوم والمهان، على فضح الغشّ والرياء، وحده القادر على رفض القبح والفجور، على أن يوقظ الفجر لينقشع الظلام ويسطع النور، فنسمع أنغام الطيور لا قنابل القتل والدمار، فنشاهد ابتسامة ترتسم على وجه طفل لا دموع الغدر وحسرة الفراق، فنتنشق عبير الزهور لا رائحة العفن والفساد.

لقد وضع القديس إغناطيوس دي ليولا، مؤسس الرهبانية اليسوعية، في بداية كتابه المعروف بـ"الرياضات الروحية"، نصّاً في غاية الأهمية يسمى "المبدأ والأساس" فقال: "يلزمنا لذلك أن نحمل أنفسنا على أن نكون غير منحازين إلى أيّ خليقة من الخلائق – في كل ما هو جائز لحرّية اختيارنا وغير محظور عليها – حتى إننا – من جهتنا – لا نُريد أن نفضل الصحّة على المرض، ولا الغنى على الفقر، لا الكرامة على العار، ولا طول الحياة على قصرها، وهلم جرّا، بل نرغب ونختار ما يزيدنا اهتداءً إلى الغاية التي لأجلها خلقنا". فالإنسان الحرّ هو القادر على أن يكون غير منحاز للصحّة أو للمرض، للفقر أو للغنى، للكرامة أو للهوان، لطول الحياة أو لقصرها. لأنه إنسان تحرر من ذاته، من أنانيّته، من لا مبالاته، إنسان فطن لهدف وجوده وحياته ومماته، فهم وتيقّن أنه مخلوق لا لذاته بل لآخر في بعده السماوي والأرضي، فتوشح الحق والعدل والرحمة، فهو القضية وهو الحلّ!

علينا أن نكرّس الوقت والمجهود حتى يعي الأهل أنّ هدف الأسرة هو الإنسان، أن يأنس الإنسان مع آخر، حتى لا تنحرف البوصلة وننخدع بالمظاهر ونفقد الجوهر، فتنحصر قيمة العائلة في فخامة المسكن وماركة السيارة، وقيمة الأثاث والتحف والمجوهرات التي تملأ جوانب المسكن، فيهرب الحبّ وتفقد الأسرة صفاء النفس وراحة الضمير وصلة الرحم، وتتحول فندقاً للمبيت ووسائل لتحقيق المشاريع الشخصية ومسرحاً لإتمام الصفقات وأدوات للإشباع الرغبات. ونتساءل لماذا هربت السعادة من البيوت؟ ابحثوا عن الإنسان!

علينا أن نبني نظاماً تعليمياً يعي أنّ فلسفة العلم وهدف التربية هو الإنسان، لا لتوريد أدوات لسوق العمل فنحول الإنسان لوسيلة، لسلعة تباع وتشترى بحسب حاجات البورصات العالمية. إنّ المدارس تتسابق في ما بينها وتتفاخر بمقدرتها على تأمين الحصول على شهادة البكالوريا والجامعات تتعهد وتقسم بكل اللغات بأنها ستوفر الضمانات التي ستقود لسوق العمل لكل من يلتحق لديها. تباً لتعليم ينتهي بشهادات تزين الصالونات وبتفريخ مجموعات من العبيد في أيدي أرباب العمل وأصحاب الرئاسات. ونتساءل لماذا فقدنا متعة التعلم ورغبة البحث وسحر الإبداع والابتكارات؟ ابحثوا عن الإنسان!

علينا أن نعيد بناء مجتمع قادر على إفراز رجال ونساء يكونون شهوداً للقدوة الحسنة ممن قدموا للإنسانية علامات على طريق الحق والعدل والتضحية لأجل الآخر، بعيداً من التسييس الطائفي أو التجارة الإعلامية. وهنا يبرز دور المؤسسات الحكومية والمدنية في بناء مجتمع إنساني، يُعلي من دور وقيمة الإنسان، مجتمع يحمي الإنسان الضعيف والمهمش حتى لا يُسحق ويحرم أبسط حاجاته الإنسانية تحت قدمي حضارة الاستهلاك وترهيب أصحاب السلطة والنفوذ. أنتساءل لماذا يولد العنف وتزداد الجريمة في المجتمع، لماذا ينتشر الفساد، لماذا تقوم الثورات؟ ابحثوا عن الإنسان!

علينا أن نساعد هذا الكائن الضعيف للتحرر من عبودية المادّة وخداع المظاهر الآنيّة، وتلاعب التعاليم اللا إنسانية بفكره ووجدانه وإرادته، فدفعته للخوف والعيش في حالة من التوجّس والحذر من الآخر، بل والسعي لإقصائه وفنائه، فلم يعد يرى فيه الأخ والصديق والأنيس بل العدوّ والخصم والنقيض. الإنسان كائن ضعيف نعم ولكن قلبه وعقله وروحه وكيانه كلها تتوق إلى الحرية ويشتاق إليها، ولكن علينا أن نساعده في كسر قيود العبودية والخروج من الظلمة إلى النور، من التبعية إلى الريادة، من الأنانية إلى العطاء، من الخوف والانغلاق على ذاته وأفكاره وعاداته، إلى الانفتاح على الآخر المختلف، فنقيض الحب ليس الكره، بل اللامبالاة.

قال السيد المسيح: "الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون فإِنَّكم تُؤَدُّونَ عُشْرَ النَّعْنَع والشُّمْرَةِ والكَمُّون، ولكنَكُم أَهمَلتُم أَهَمَّ ما في الشَّريعة: العَدلَ والرَّحمَةَ والصِّدقَ". نعم أَهمَلتُم الإنسان، فهو القضية وهو الحلّ!

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم