الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

مهرجان - "الأسد الذهب" لـ"ساكرو غرا": كلّ الطرق لا تؤدي إلى روما!

A+ A-

"ساكرو غرا" للسينمائي الايطالي الرحالة جيانفرانكو روزي، "أسداً ذهباً" في الدورة السبعين من مهرجان البندقية؟ الخبر لا يكاد يصدَّق. لماذا؟ لأن هذا الشريط الذي عُرض في اليوم ما قبل الأخير لـ"الموسترا"، بالإضافة الى كونه وثائقياً (الجانر الذي يدخل مسابقة البندقية للمرة الاولى)، من الأعمال التي لم يتوقع احد أن تنال رضا المحكمين حدّ تفضيله على سينمات ذات بنى درامية أكثر تعقيداً. لكن، قبل ساعات قليلة من حفل توزيع الجوائز، تناقلت الألسنة بعض الشائعات، التي سرعان ما تأكدت، عن وجود كلٍّ من روزي وألكسندروس أفراناس (مخرج "ميس فيالنس"، الفائز بـ"الأسد الفضة")، في أعلى مكان على اللائحة. وعندما صار جميع المرشحين داخل الـ"سالا غرانديه"، لتسلّم الجوائز، بدأنا نسمع ونحن في المقهى نترقب النتائج، ان فيليب غاريل، المشارك بفيلمه "الغيرة" لا يزال في الفندق، ما يعني ان صديقه برناردو برتوللوتشي، رئيس لجنة التحكيم، تخلى عنه، مثلما تخلّى ايضاً عن "طوم في المزرعة" للكندي كزافييه دولان، أصغر المرشحين في الدورة 70 (24 عاماً).


بإسناد جائزة "الأسد الذهب" الى ايطاليا، تعود الجائزة المهيبة الى بلاد دانتي، بعدما كان نالها جياني اميليو عام 1998، اي قبل 15 عاماً. "ساكرو غرا"، ثالث فيلم طويل لروزي، وأول وثائقي يدخل مسابقة الـ"موسترا" حيث يفوز من الضربة الأولى، الضربة القاضية. جيانفرانكو روزي (1964، مولود في اريتريا) يصوّر الحياة اليومية لمهمشين يعيشون حول الطريق الدائري الكبير الذي يحيط بمدينة روما وطوله 58 كم. الشخصيات والحكايات الصغيرة والكبيرة التي يلتقطها بواقعية تلامس الدهشة، تعبّر عن ايطاليا الحالية وأزماتها وطموحاتها وأحلامها وخيباتها، وتحمل مضامين سياسية قوية بطريقة غير معلنة وغير مباشرة. يمنح روزي فيلمه ابعاداً جمالية مهمة تصنّف مجمل العمل في منتصف الطريق بين الروائي والوثائقي. "ساكرو غرا" انتصار الواقع على الخيال. لكنه واقع مشغول وململم ومنقح، تطلب من المخرج سنتين تصويراً وثمانية اشهر مونتاجاً.
لا شفقة في نظرة روزي، ولا تدليس سياسياً ولا تمجيد للبؤس المعشش في النفوس. نحن أمام قاع المدينة وناسها الذين كسرتهم الحياة: هناك الصياد، والاريستوقراطي، والمسعف، وطبيب الأشجار، والأمير، والممثل... وهناك الغنم التي ترعى الحشيش على بُعد امتار من السيارات العابرة بسرعة 120 كم في الساعة. وهناك عاهرتان تثرثران في سيارة على طرف الطريق. كل هؤلاء تجمعهم اقامتهم في هذا الحيز المكاني المفصول عن الحياة الحقيقية لأهل المدينة. كلهم على قدر من الاختلاف عن النموذج السائد، ويتراوح اختلافهم بين شخص وآخر. هناك الفاسق والرومنطيقي والأبله. مراراً وتكراراً، نرى السيارات تمر على هذا الخطّ السريع الذي يربط روما بضواحيها، قاصدةً حياة اخرى، اكثر أهمية وغلاموراً ربما. لكن هذه الحياة ستبقى خارج اطار روزي. وهذا ما سيعزز الاحساس بالثبات الذي يلتصق بالشخصيات. هنا الحياة مقبرة الأحلام...
تنتقل كاميرا روزي من شخصية الى اخرى، بسلاسة لافتة. نكتشف الطبيب الذي يلتصق بشجرة لمعاينة نوع المرض الذي اصابها جراء نخر الحشرات لأحشائها. ونتعرف إلى أحد الأمراء القدامى الذي حوّل منزله ذا الديكور الكيتش الى فندق لأصحاب الموازنات الضئيلة. لن ننجو من المسعف الذي يهرع الى مواقع حوادث السير، ولا يمانع في تبادل بعض الأحاديث مع الضحايا حتى في احلك الظروف. على هذا المنوال، تشق الغرابة طريقها الى الفيلم شيئاً فشيئاَ... ينوع روزي في وسائل التقاط المشهد. في مقطع من المقاطع، يلجأ الى كاميرا كتلك التي تُستخدم للمراقبة لتصوير الأحاديث بين رجل وابنته. لروزي دائماً عين مراقبة، لذلك لا يحتاج الى ان يقول أيّ شيء اضافي؛ ليس هناك تعليق صوتي ولا موسيقى مباشرة. كل المعلومات نستقيها من الصورة الذكية، تلك الصورة التي يتحرك فيها قدر هائل من الأحاسيس.
يقول روزي ان هذا الطريق الدائري الذي يأوي كل هؤلاء غير المرئيين، واقع حياتي يفرض نفسه وتجب معاينته. في الملف الصحافي، يروي انه كان شيئاً مؤلماً له ان يصوّر. ولكن، قبل أن يلتقط ما التقطه، كان عليه ان يمرّ عبر مرحلة يتآلف فيها مع الشخصيات. هذا شيء استغرق اشهراً طويلة، وكان ضرورياً ليعرف من أيّ مسافة سيصوّر الشخصيات، ومن أيّ زاوية. عندما كان يدرك ان الوقت حان للانطلاق في التصوير، تتبدد الشكوك فجأة، ليبقى وحيداً مع الشخصية التي يصوّرها وتذوب الكاميرا بين يديه. يؤكد روزي ان التصوير ليس فقط عملية نفخ الحياة في الجمود، بل ايضاً تكثيف تلك العناصر التي تراكمت عبر الزمن.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم